لوني بني داكن ومذاقي مر للغاية، كما أن شكل حبوبي ليس جميلًا، حتى أنني بدأت أشعر أن مالك المحمصة كان غافًلا، حينما قرر التجارة في "البن"، هل كان يعتقد حقًا أن ثمّة من يحب مذاقنا المر، لقد مر شهرًا كامًلا على وجودنا على أحد الأرفف، ولم يأت أحد ليشتريني!
فاجئتني اللحظة التي اكتظ فيها المكان داخل المحمصة، دفعة واحدة، عدد من الراغبين في شرائي، ومن هنا بدأت رحلاتي الطويلة، والتي عرفت فيها إجابات عمّا كان يدور في ذهني، وما هي قيمتي في هذه الحياة؟
أول رحلة، كانت لمنزل السيدة "ريهام"، التي دائمًا ما يكون يومها مليء بالصعاب، بداية من مشاكل عملها، إلى تنظيم وترتيب المنزل وإعداد الغداء ومذاكرتها مع أطفالها، حتى نهاية اليوم، الذي دائمًا ما تصل إليه وهي منهكة، فتعود لي، تقوم بتحضيري كمكافأة لها، وتبدأ باحتسائي مستمعة، أثناء مشاهدتها لمسلسلها اليومي، مخلفة ورائها كل همومها.
بعدها انتقلت إلى أحمد، طالب فى الثانوية العامة، كنت خير صديق له، فكان يقضي معظم يومه في الدروس، ثم يعود إلى المنزل بعد أن أصابه الإرهاق، فكان يقوم بتجهيزي بعد تناوله الغداء حتى أساعده في التركيز أثناء المذاكرة، كان يلجأ لي عندما يشعر بالضغط النفسي بسبب خوفه من النتيجة، أو في حالة شعوره بالاكتئاب بسبب ضغط الدروس، أو في أوقات الراحة حتى يستطيع إخراج طاقاته السلبية.
رافقت أحمد في أصعب وأهمّ أيامه، فترة الامتحانات التي كان دائمًا ما يعتمد فيه على ملء فنجان ساخن من حبوبي، حتى تمدّه بالطاقة الكافية ليكمل الليل في المذاكرة وهو بكامل نشاطه وتركيزه، حتى جاء يوم النتيجة، فكنت مشروبًا أساسيًا لضيوفه الذين جاءوا ليشاركوه فرحته، فقد حصل أحمد على 95% في الثانوية العامة.
بعد ذلك قضيت وقتًا، مع شابة مرحة، تدعى إسراء، يأتي صديقاتها إليها نهاية كل أسبوع، لتبادل الأحاديث وتتعالى ضحكاتهم، فيما تقوم إسراء بفقرة دائمة وهي قراءة للفنجان كنوع من أنواع المزاح بعد أن تنتهي كل واحدة من فنجانها.
أذكر أن آخر يوم قضيته عند إسراء، كان يومًا مختلفًا، فقد قررت وصديقاتها استخدامي كـ"ماسك" لعلاج بشرتهن.
وفى نهاية الرحلة، زرت منزل السيد عبد الله والسيدة فاطمة زوجته، عجوزان عاشقان لي، إذ لا يمر يومهم أبدًا دون احتسائي في الصباح الباكر، فكانت السيدة فاطمة تقوم بتحضيري؛ بداية من وضعي في الكنكة النحاسية القديمة، ثم النار الهادئة لـ"السبرتاية" حتى أنضج، وفي منتصف غلياني كانت تقوم بتقليبي بالمعلقة بكل حب حتى يذوب السكر، حتى يكون مذاقي في قمة اللذاذة.
بعدها تذهب العجوز للجلوس مع زوجها الذي دائمًا ما يكون في انتظارها في شرفة المنزل، ليستمعوا سويًا إلى أغنيتهم المفضلة لفيروز في الراديو، أثناء تبادلهم الأحاديث فدائمًا ما كانوا يمدحون في مذاقي. وكنت دائمًا أستمع إلى حواراتهم، وهم يتذكرون تغزل الشعراء في مذاقي، وكيف كنت سببًا لتصفية ذهنهم، فلقد كتب عني نزار قباني قصيدة بإسم "قارئة الفنجان "، التي ازدادت حلاوة بعد أن غناها عبدالحليم حافظ.
كما غنت فيروز المحبوبة لدى العجوزان أيضًا، للقهوة، ففي ذات المرات استمعت إلى أغنية لها، وهي تقول: ( في قهوة على المفرق في موقده وفي نار، نبقى أنا وحبيبي نفرشها بالأسرار، جيت لقيت فيها عشاق اتنين صغار، قعدوا على مقاعدنا سرقوا المشوار)، وهنا أدركت أنني لست مجرد حبة مرّة المذاق، بل طقس شهي، وفنجان ذو نفوذ وسلطة على العقول.