حكاية رفرفة

تصميم رياض عادل

كتب/ت جومانا سريان
2024-09-29 17:57:56

مع إشراقة يوم جديد من فصل الربيع تحت طيف ضوء الشمس المحجوب بالسحب البيضاء التي تُزيّن السماء الزرقاء مُتدلية من غصن شجرة تفاح؛ هناك شرنقة تتفتح، ومنها تفتح عيناها، وتفرد لأول مرة جناحيها المنقطين بالأسود والأحمر والأبيض... إنها فراشة.

تبدأ من هنا رحلتها للبحث عن ذاتها؛ فهي لا تعلم أنها فراشة، ولا تعلم شيئًا بالعموم، وفي بادئ طريقها تطوف أولًا حول ثمرة التفاح المتدلية من نفس غصن شرنقتها، فتجدها حمراء جميلة فوقها قطرات الندى كأنها طوق حُليّ يُزينها، وعندما أمعنت النظر إليها مندهشة بروعة الثمرة، وجدت بها ثقب أسود يمتدّ عمقه إلى قلبها، مما أفسد روعتها، فسرعان ما تحول اندهاش الفراشة إلى اشمئزاز.

أكملت الفراشة رحلتها مبتعدة قليلًا عن شجرتها لتجد كومة من شجيرات التوت البريّ، فتقرر إلقاء نظرة عن كثب، وإذ بها تجد التوت جميل اللون، بخلاف ثمرة التفاح، لم يحوْ التوت ثقوبًا سوداء قبيحة المنظر، فاقتربت لتتذوقه تلقائيًا غير مدركة أنها فعلت بحكم الجوع، فتفاجأت بطعم التوت الغير مستحب لها، ولا تقدر على امتصاصه؛ فهو صلب بعض الشيء ولم ينضج بعد، كأنه يرفض أن تتغذى عليه الفراشة الجائعة.

ارتفعت الفراشة مرفرفة بجناحيها لأعلى قليلًا، وسرعان ما لاحظت قطيع من كائنات غريبة عنها، يكسوها الفراء الأبيض كالثلج، وهي أكبر حجمًا من الفراشة، إنها الأرانب البرية، مُشكِّلة أسرة صغيرة من أب وأم وصغارهم الذين يصطفون بطريقة جميلة، كأنهم في انتظار أن يُلتقط لهم صورة تذكارية للعائلة، خاصة مع تلك الخلفية المكونة من سيقان وأوراق النباتات الخضراء المرصعة بالأزهار الحمراء والصفراء والزرقاء والوردية.

وإذا بالفراشة تشعر بالدفء لهذا المنظر، وتقرر أن تُدلي بجناحيها قليلا؛ لتستقر أعلى جذع شجرة على مقربة منهم لبعض الوقت، ولكن هذا الدفء لم يطل كثيرًا، حين قرر أحد الآباء القفز باتجاه أقرب شجيرة توت -ربما لجلب الطعام للأسرة- وفيما لم يبتعد عنهم كثيرًا فإذا بكائن أضخم بكثير مخطط بالأسود والبرتقالي، وهو النمر البريّ يظهر فجأة، فلم يُلاحظ قط إلا عندما انقضّ على الأرنب، لاصطياده والهرب به بعيدًا، وفي الوقت ذاته اتجهت بقية الأسرة لمخبئها سريعًا، حتى توارت عن أعين الفراشة، وهذا المشهد ما جعل الفراشة تشعر بالفزع والاستياء فجأة بعد دفء وسلام.

بعد كل هذه الأحداث لم تعد الفراشة قادرة على الرفرفة بجناحيها مجددًا، لتكمل طريقها في اكتشاف المزيد والمزيد من المشاعر بداخلها والكائنات من حولها ففي كل جميل تلقاه تجد قبيح، وفي كل سلام وجدت رعبًا.

كيف للفراشة أن تُكمل طريقها بعد كل ما لاقت؟ وكيف لي أن أعلّمها الاستمتاع بالنظر للوردة دون الالتفات لشوكها؟، وكيف لي بإبلاغها أن الحياة كالوردة الجميلة بشوكها.. معًا، وأنّ لا وجود لورد بلا شوك، فهما متلازمان بشكل ما أو بآخر؟، وكما قال جبران خليل جبران: "هناك من يتذمر لأن للورد شوكًا، وهناك من يتفاءل لأن فوق الشوك وردة".

ماذا لو علمت أن للحكاية بقية؟ هل سيرفع من معنوياتها إن أدركت ما يدلّ عليه ثقب التفاحة؟ أو صلابة التوت؟ أو حتى اصطياد النمر للأرنب؟ على كل حال فثقب التفاحة يدلّ على أنها طابت، فتغذت عليها دودة ما وأصبحت ممتلئة سعيدة، والتوت البري تأخر موعد نضجه فحسب، لينضج مع الأرانب الصغيرة فتجد ما تتغذى عليه حين تكبر قليلًا، أما اصطياد الأرنب من النمر أدى أيضًا إلى إشباع النمر لهذا اليوم، هي دائرة كلنا ندور معها.