التلفزيون في رمضان.. من "لمّة" العائلة إلى عزلة الشاشات الصغيرة

تصوير: شهد الهيثم - التلفزيون في رمضان

كتب/ت رحمة أشرف
2025-03-13 11:53:41

عندما انطلق الإرسال التلفزيوني في مصر عام 1960، تحلّقت العائلات حول تلك الشاشة الصغيرة، التي لم يتجاوز حجمها آنذاك 14 بوصة، لمتابعة ما يُبث من برامج وأفلام بلونيها الأبيض والأسود.

في البداية، كان التلفاز يُوضع داخل المقاهي فقط، حيث يجتمع الناس حوله بشغف لمشاهدة البث القليل المتاح، ومع مرور الوقت وتطور التكنولوجيا، أصبح التلفاز جزءًا أساسيًا من كل منزل، يحمل بين قنواته المئات من الخيارات. 

لكن رغم هذا التنوع الهائل، فقدَ المشاهد المصري على مدار السنوات الماضية روح التجمع العائلي التي كانت تميز فترة التسعينيات، خاصة في شهر رمضان، فقد كانت الأسر تجتمع بشوق لمتابعة برامج وأعمال صنعت ذكريات لا تُنسى، مثل كرتون "بكار، بوجي وطمطم، فوازير نيللي وشريهان وعمو فؤاد".

جهاد: "الجيل الجديد لا يهتم"

تتذكر جهاد علي، ربة منزل وأم لأربعة أبناء، التجمع العائلي لأسرتها في ليالي رمضان، حين كانت الشاشة الصغيرة تضم الجميع في لحظات من الدفء والبهجة. تقول جهاد: "أرى أن المحتوى الذي يُعرض في رمضان خلال السنوات الأخيرة هو السبب الأول في عزوفنا عن هذا التجمع، فلا أستطيع مشاهدة المسلسلات والبرامج مع أطفالي".

الآن تجلس جهاد أمام التلفاز، بينما أبناؤها يحمل كل منهم هاتفًا محمولًا، منشغلين بمحتوى مختلف، بعيدًا عن الأجواء العائلية التي كانت تجمعهم في الماضي، تشعر جهاد بالحنين إلى تلك الأيام التي كان فيها التلفاز وسيلة للتقارب، حيث كانت تجتمع الأسرة بأكملها لمشاهدة البرامج الرمضانية الهادفة دون تشتت.

تضيف: "ما زلت أتذكر كيف كنا ننتظر برنامج الشيخ الشعراوي بعد صلاة العصر، حيث كان الجميع، صغارًا وكبارًا، يتابعونه بشغف، وكذلك كرتون بكار الذي كان يُعرض وقت الإفطار، مما جعلنا نشعر بروح رمضان في كل تفاصيله، لكن اليوم لا يحتوي التلفاز على ما يشجع الأسرة".

شعور جهاد ليس فريدًا، إذ تلاشت عادة التجمع الأسري أمام التلفاز مع تغير المحتوى وفقدان الهوية الرمضانية في الإنتاج التلفزيوني، فلم يعد التلفاز وسيلة تجمع الأسرة كما كان في الماضي، بل أصبح كل فرد منشغلًا بمحتوى مختلف، يفقد معه ذلك الشعور الدافئ بالمشاركة العائلية.

ميرفت: "لا نجتمع على التلفاز في رمضان"

من بينهم ميرفت علي وأسرتها، فهي معلمة ابتدائي تبلغ من العمر 45 عامًا، تتحدث بحنين عن الفرق بين برامج رمضان في الماضي والحاضر، قائلة: "في طفولتي، كانت البرامج التلفزيونية تحمل قيمة حقيقية، أما المسلسلات، مثل عمر بن عبدالعزيز وهارون الرشيد، لم تكن مجرد أعمال درامية، بل كانت مصدرًا للثقافة الدينية والتاريخية، تثري وعينا وتضيف إلى معارفنا".

وتواصل ميرفت حديثها، قائلة: "بعد الإفطار، كنا ننتظر الفوازير وقصص ألف ليلة وليلة بشغف، حيث لم تكن مجرد ترفيه، بل كانت تحمل في طياتها رسائل وقيم هادفة تترك أثرًا في نفوسنا، أما اليوم، أشعر أن الزمن تغيّر، ولم يعد التلفاز يؤدي دوره التربوي والتثقيفي كما كان، لذا لا نجتمع عليه إلا نادرًا".

ترجع الدكتورة بسمة سليم، أخصائية علم النفس الإكلينيكي وتعديل السلوك، سبب تجمع الأسرة المصرية في الماضي حول التلفاز في رمضان إلى طبيعة المحتوى الذي كان يناسب جميع أفرادها، مشيرة إلى أن المسلسلات كانت تناقش قضايا اجتماعية وثقافية تمس الأسرة ككل، مما ساهم في تعزيز الروابط الأسرية وتقوية التفاعل بين أفرادها. 

لكن مع انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، تغيّرت هذه العادة تدريجيًا، وفق بسمة في حديثها مع "أهل سوهاج"، حيث أصبح لكل فرد اهتماماته الخاصة، يتابع محتواه المفضل عبر الإنترنت، متجنبًا الإعلانات المزعجة، مما أدى إلى تقليل فرص التجمع العائلي حول التلفاز.

أسباب نفسية وآثار اجتماعية

يؤيد ذلك، الدكتور مرزوق العادلي، أستاذ الإعلام بجامعة سوهاج، إذ يرى أن المسلسلات القديمة تناولت قضايا اجتماعية وإنسانية عميقة، عكست هموم الناس وآمالهم في إطار درامي متقن، حيث تميزت بالحبكة المحكمة والتشويق والصراع بين الخير والشر، مما جعلها أكثر جذبًا واستمرارية في وجدان المشاهدين.

في المقابل، يرى أن الدراما الحديثة أصبحت تفتقر إلى العمق والمضمون، وتعتمد في كثير من الأحيان على شخصيات سطحية وسيناريوهات غير مترابطة، ما جعلها أقل تأثيرًا على المشاهدين.

منذ سنوات ولم تشعر منى محمد، معلمة لغة إنجليزية تبلغ من العمر 48 عامًا، بهذا التأثير للمحتوى المقدم، إذ تشعر باختلاف شديد في أجواء رمضان بين الماضي والحاضر، قائلة: "كنتُ أتمنى لو عاد بي الزمن إلى الماضي، خاصة في شهر رمضان، لأننا نفتقد الآن التجمع العائلي".

وتستعيد منى بحنين ذكريات طفولتها في رمضان، حينما كانت تنتظر بشغف فوازير عمو فؤاد، ومسلسل جدو عبده وقت الظهيرة، تليها قصص الأنبياء للأطفال، ومع اقتراب موعد الإفطار، كانت الأسرة تستمتع بمشاهدة بكار وبوجي وطمطم، ثم تلتف حول التلفاز بعد الإفطار لمتابعة الفوازير بلهفة.

أما اليوم، تشعر منى بخوف شديد من عدم تجمع العائلة في رمضان، لا سيما أنه كان قديمًا الشهر الوحيد الذي تستطيع الأسر ممارسة تلك العادة الجميلة فيه.

وترى الدكتورة بسمة أن من الضروري تخصيص أوقات تجمع أساسية داخل الأسرة، مثل وقت الإفطار أو الصلاة والتراويح، للحفاظ على التفاعل الأسري وتعزيز الروابط العائلية، في ظل العصر الرقمي الذي بات يشجع على العزلة الفردية.

فيما يحذر الدكتور العادلي من التأثير السلبي للأعمال الدرامية الحالية، إذ يرى أنها قد تساهم في انتشار بعض الظواهر السلبية، خاصة بين الشباب الذين قد يتأثرون بسلوكيات غير مألوفة، مما يستدعي ضرورة إعادة النظر في مضمون الدراما المقدمة للمشاهدين، حتى لا نفتقد تجمع الأسرة.

"بوجى يا بيجو.. طمطوما يا طمطم يا طماطم، إحنا رجعنا لكم زي زمان لازم تيجوا، لازم تيجوا علشان رمضان"، يَرِنّ صدى تتر المسلسل في أرجاء المنزل، تتنهد جهاد بحسرة، مسترجعة ذكريات الطفولة حينما كانت تلك النغمات إشارةً للتجمع العائلي حول التلفاز، بينما أبناؤها منشغلون بالشاشات الصغيرة للهواتف.

تصوير: شهد الهيثم - التلفزيون في رمضان