في شارع 15 بداخل حي المعادي الأخضر، التي تسيطر عليه الأشجار العتيقة، بداخل درب 15 "بيت عرفة"، تُعرض صور تنبض بالحياة، بها بحر ولون أخضر يسر الناظرين، لا تختلف كثيرًا عن منطقة المعادي، صور تُعرض لقطاع دُمّر منذ عام، وصار لونه رُماديًا.. قطاع غزة الذي أُطلق من خلاله اسم المعرض "غزة حبيبتي".
تزامنًا مع مرور عام على طوفان الأقصى، أقيم معرض "غزة حبيبتي" الذي يضم صور لـ10 مصورين صحفيين فلسطينيين، بدأ المعرض في السابع من أكتوبر، وانتهى أمس الأربعاء، فيما كانت الصور توثيقًا لفلسطين، فالمصورون العشرة ضمن مشروع فلسطين غير المحكية "Untold Palestine"، وهي مجموعة تهدف لتوثيق وسرد القصص الرقمية التي تحكي عن فلسطين.
فيما اجتمعت ثيمة الفعالية الفنية على عرض صور لقطاع غزة قبل القصف، لتسرد تلك الصور كيف كانت حياة الفلسطينيين قبل النزوح والدمار؛ بين لعب الرياضة، طقوس الاحتفالات، والسباحة على شاطئ غزة وابتسامات الأطفال.
مناقضة "حيوانات بشرية"
اختار محمد بدارنة، مصور ومدرب ومؤسس مشروع فلسطين غير المحكية، فكرة المعرض بعد هجوم القوات الإسرائيلية على قطاع غزة، وخلال عام من محو القطاع، كان يسعى بدارنة ومجموعته في بقاء حياة الغزاويين حية، وفي حديثه لـ"ًصوت السلام" صرّح قائلًا إن المعرض يناهض توصيف الاحتلال للفلسطنين بـ"حيوانات بشرية"، ويكسر صورة ربط التضامن بصور القصف والشهداء والنزوح.
اهتم بدارنة ومجموعته بربط التضامن للحياة التي فقدوها خلال عام، ويكمل بدارنة "إلى جانب الروايات النضالية ضد الاحتلال، توجد الروايات الإنسانية للحياة اليومية بغزة، ولأننا بنموت وبنستشتهد من أجل هذه الحياة، لذلك هي الأهم في العرض والتوثيق".
يسعى مشروع "Untold Palestine" إلى سردية أعمق، وهي تحرير الصور من سردية الاحتلال، التي صوّرت فلسطين لسنوات أنها أرض بدون شعب، ثم بدأت بنقل صور سيئة عن الفلسطينيين لكسب التعاطف العالمي، كما يهتم المشروع بتحرير الصور من هيمنة الوكالات الاجنبية، ونقلها بعيون أبنائها، ذلك حسب ما قاله مؤسس المجموعة بدارنة.
طرف صناعي في ملعب بغزة
ضمن صور المعرض، توجد واحدة للاعب كرة سلة في ملعب بغزة لديه طرف صناعي، بُتر طرفه بسبب اشتباكات مع الاحتلال في 2019 بشمال القطاع، وبعد حصوله على الطرف الصناعي تعلّم رياضة كرة القدم، وكرة السلة و"باركور" -وهي رياضة تعتمد على الوثب. الصورة للمصور الفلسطيني محمد سالم، ضمن فريق عمل المشروع، واختار هذه الصور "لأن هَاي غزة (هي دي غزة).. غزة هي محاولات البحث عن الحياة رغم الموت والفقد"، حسب ما صرحه سالم لـ"ً صوت السلام".
"احنا بدنا نعيش" بمشاعر أمل ممزوجة بالأسى، يحكي سالم أنه شارك أيضًا في زاوية بالمعرض لعرض صور الشهداء، من الأصدقاء ودوائر المعارف المتشابكة بين فريق عمل المشروع، وتتجاور تلك الصور بجانب لقطات لأطفال يلعبون ونساء يخبزن الخبز.
لم يتبقْ سوى الدمار
بعد أن كان لؤي أيوب، مصور صحفي محترف، يخلق قصصًا صحفية من غزة، ويعمل بشكل حر مع عدة منصات، تحوّل بعد 7 أكتوبر إلى مصور حرب، وتحديدًا بعدما فقد أرشيفه تحت الركام، وهو أرشيف للحياة قبل غزة، فأصبح الأرشيف الوحيد الذي يمتلكه عمره عام واحد، يحتوي على صور لشوارع مقصوفة، صنع فيها ذكرياته، ومستشفيات تلفظ أنفاسها الأخيرة، ثم مشاهد نزوح.
يقول أيوب بصوت حزين "فقدت كل هاردات اللي عليها شغلي قبل الحرب، ولم يتبقْ لي إلا قصف"، لذلك السبب لم يستطع أيوب المشاركة في المعرض سوى بصورتين، اللذان استطاع الحصول عليها مرة أخرى، صورة منهم يلعب فيها الأطفال رياضة "السكيت" (التزلج)، وصورة أخرى لأشخاص يهربون من المطر في شوارع عامرة، تلك الصورة كانت في موسم الشتاء الأخير قبل القصف.
لم يكن يعلم أيوب أن ذلك الشتاء كان الموسم الأخير على أرضه، وأن الشتاء التالي سيحضره داخل خيمة تغرق من بضعة قطرات مطر بسيطة، يحاول فقط ألا تُغرق كاميرته، لأنها ستكون سببًا لتوثيق 180 يوم عاشهم أيوب بالحرب، وبسبب تلك الصور صُمّمت فقرة في اليوم الختامي، لعرض صور الحرب، من خلال جلسة مع المصورين.
تواجد بالمعرض مصوران فقط، من أصل 10 لم يتمكنوا من الحضور بسبب تواجد البعض في رفح، والبعض الآخر خارج البلاد في مهمة عمل، عرض سالم وأيوب صورهما، سردوا الكواليس وراء كل صورة، كيف كانت الجثث تلاحقهم في كل مكان؟ ووجود سترة الصحفيين على الأرض ملطخة بالدم، كانت تزيدهم إصرارًا على التقاط الصور، وتوثيق جرائم الاحتلال، بعيونهم التي شاهدت الحياة بألوانها، ثم الدمار.
بعد عام.. المعادي المحطة الأخيرة
خلال عام من القصف، أقيم المعرض في 7 دول، تحت إشراف بدارنة وباقي الفريق، وهم برلين وأسبانيا، النمسا وأمستردام، فرنسا و فيلادلفيا في أمريكا، لتكون المحطة الأخيرة للمعرض هي منطقة المعادي في القاهرة، كأول مدينة عربية تزورها صور "غزة حبيبتي"، الذي كان متوسط الحضور في المعرض خلال الثلاثة أيام 20 شخص.
من بينهم نهى نبيل -25 عامًا- قررت الحضور بسبب اهتمامها بالفعاليات الفلسطينية بالقاهرة، وتحديدًا معارض الصور، لأنها تبني لها ذاكرة بصرية لقطاع كانت لا تعرف شكل الحياة فيها، وكان شعور نهى مع كل صورة هو الحزن الشديد، حسب وصفها، فمع كل صورة تتخيل أن ذلك المكان قد قُصف أو تعرضت أماكن قريبة منه للقصف، أو أن الأشخاص الموجودين بالصور استشهدوا أو أصيبوا، فجميع السيناريوهات المطروحة تجعل نهى متأثرة بالصورة أكثر.
تكمل نهى بحزن" الأخبار اللي كانت بتوصلنا كل يوم أن خلال ساعات استشهد 100 شخص مثلًا، بتحولهم لمجرد رقم فقط، لكن زواية صور الشهداء في المعرض، خلتني أتأمل أن العدد ده كان عنده حياة، وابتسامتهم في الصور خلتني أفكر في أحلامهم وطموحاتهم اللي انتهت بالقصف".
وبينما بدأ القائمون على درب 15 التواصل مع "فلسطين غير المحكية"، في سبتمبر الماضي، لتنفيذ المعرض بعد مرور عام، وبدأ التجهيز للمعرض من يوم 1 أكتوبر، وذلك بحسب ندى عبد النبي، أحد المنظمين وفريق عمل درب 15، التي تحكي أن بعد أسبوع من ضغط العمل لخروج المعرض للنور، كان عدد الحضور والتفاعل أول يوم كافٍ لتفكيرهم في تلك التجربة مرة أخرى.
تقول ندى لـ"صوت السلام" إنها لاحظت كيف انبهر الحضور بشكل الصور كأنهم لم يعرفوا شكل الحياة في غزة من قبل، بينما كانت الصور الأكثر تأثيرًا هي صور الأطفال، ثم صورة محمد سالم الخاصة بلاعب كرة السلة صاحب الطرف الصناعي، كان يقف أمامها الحضور، ويسألوا احيانًا عن إمكانية مقابلة المصور.
في تمام الساعة 9 مساءً، أنهى "درب 15" فعاليات "غزة حبيبتي"، فيما سيتنقّل المعرض بين دول العالم الأخرى، ليحكي عن أناس كانت لديهم منازلهم وحياتهم وروتين يومهم الرتيب، الآن ربما صار بعضهم تحت الأرض، أو نازحين لا يستقرون في مكان، يتمنون شربة ماء واحدة، أو مقيمين في الخارج تتقطّع قلوبهم حرقة على وطن صار رمادًا.