على أنغام أغنية "لأ مش أنا اللي أبكي" لموسيقار الأجيال، مع رائحة الكتب والورق التى تملأ المكان، تحولت مكتبة ديوان بالزمالك إلى احتفالية خاصة بموسيقار الأجيال، محمد عبد الوهاب، المولود في 13 مايو 1902، ورحل في 4 مايو 1991، وبجانب حالة الموسيقى التي تلفّ المكان طافت حالة من الحنين بين نفوس مُحبيه الذين جاؤوا لحضور مناقشة كتاب "مذكرات الموسيقار الكبير.. محمد عبد الوهاب".
في السابعة مساء أمس الأربعاء، انطلقت مناقشة الكتاب، الذي جمّعه وقام بتحقيقه وتقديمه محمد دياب، الناقد في المجال الموسيقي، وانطلقت المناقشة من خلال دياب وحاوره أحمد القرملاوي، مدير النشر بدار ديوان وروائي مصري. وسبقتها ندوة يوم الأحد 5 مايو، في قصر الأمير بشتاك بشارع المعز، إحياءً لذكرى عبد الوهاب في شهر ميلاده ورحيله.
بدأت الندوة بذكر دياب لكيفية جمعه للمذكرات، إذ قام بدمج مذكرات عبد الوهاب من خلال أرشيف مجلة الإثنين في 1939، ومجلة الكواكب في 1954، التي نشر من خلالهما عبد الوهاب مذكراته، وقرر دياب توثيقها في كتابه، والبحث حول الفترات المفقودة من حياة عبد الوهاب، وبعد انتهائه من الكتاب عرضه على دار الهلال للنشر، لكن حسب ما ذكره دياب في الندوة أن المشروع لم يكتمل بسبب ميزانية الدار، بينما قررت دار المرايا نشر الكتاب.
عام ميلاد عبد الوهاب الحقيقي
"عقبالك يوم ميلادك.. لمّّا تنول اللي شاغل بالك".. في فيلم "بنات اليوم" غني عبد الحليم حافظ أغنية "عقبالك يوم ميلادك"، من ألحان عبد الوهاب، وظلت واحدة من أشهر الأغاني الراسخة والمرتبطة بمناسبات أعياد الميلاد، رغم أن ملحن الأغنية نفسه ظلّ عام ميلاده لغزًا حتى بعد وفاته، فبين عامي 1902 و 1911 احتار الجميع، إذ لا توجد معلومة واضحة، لكن دياب ذكر في الندوة أنه تتبّع تلك المعلومة وتأكد أن تاريخ ميلاد هو 1902.
ما رجّح صحة معلومة ولادته عام 1902 خلال بحث دياب، أن عبد الوهاب حكى من خلال مذكراته أنه بدأ الغناء بشكل احترافي من عمر 15 عام، مع فرقة فوزي الجزايرلي، وتاريخ انضمامه للفرقة في 1917، وما يتسق مع تاريخ انضمامه وسرده في المذكرات هو عام 1902 كسنة ميلاده.
يحكي دياب أنه كان يحلم بلقاء الموسيقار، وذلك الحلم يعود إلى حبه لتجربته الفنية المتنوعة، فعبد الوهاب قدم مقطوعات موسيقية وغنى، وكان ممثلًا سينمائيًا ومسرحيًا، ولحن أغاني لأعلام تاريخ الموسيقي المصري عبد الحليم وأم كلتوم. كما أثرى حركة المسرح الغنائي بين مصر والشام في الثلاثينيات، من خلال تقديم أغاني للعروض والتأليف الموسيقي.
ويذكر دياب في الندوة أنه خلال بحثه في تلك الفترة الزمنية وجد أنه استُبدل مصطلح الموسيقى المصرية إلى الموسيقى العربية، على أغلب الأغاني والموسيقى المصرية، بسبب تأثير وانتشار الموسيقى المصرية في الشام والمغرب العربي، وتقديم المسرح الغنائي المصري الذي كان يُعتبر نافذة الترفيه بين نوافذ قليلة.
سأل القرملاوي دياب عن تطوير عبد الوهاب للموسيقى المصرية، ورد دياب "يمكن أن نعرف مدى تطوير عبد الوهاب للموسيقى، من خلال النقد الذي كان يتعرض له في بداية مسيرته، فأغلب اللقاءات التلفزيونية لأم كلثوم في بداية عبد الوهاب، كانت تُعبر عن استيائها من طريقة عبد الوهاب في تقديم الموسيقى الغربية وتجاربه بين الموسيقى العربية والغربية، لكنها بعد سنوات من نجاحه لحّن لها أغنية أنت عمري في 1964".
وأوضح دياب أن أم كلثوم اعتادت على الأسلوب التقليدي في الغناء، بينما عبد الوهاب كان مجربًا على نحو خاص، مما جعله من شيوخ المجددين تاريخيًا، ويسبقه في ذلك سيد درويش في تقديم شكل جديد للموسيقي.
"كل ده كان ليه" في غزة
انتقلت المناقشة من المحاور والكاتب إلى الجمهور، التي كانت تمحورت أغلبها حوال الإعجاب بالكتاب ومحبة موسيقار الأجيال، فيما تقدّم أحد الحضور بالحديث عن ارتباط عبد الوهاب بطفولته في فلسطين، بسبب حب والدته له، مُتذكرًا مشهد من طفولته لغناء والدته لـ"كل ده كان ليه؟" خلال فقرة الطبخ، وحكى عن نجاته من حرب غزة قبل شهر، مُخلفًا ورائه أسرته وأمه، وقال للحضور "أنا متأكد إن أمي عمّ تغني كل ده كان ليه في الخيمة برفح.. وأنا الشي اللي باقيلي من غزة هو عبد الوهاب"، وردّ القرملاوي عليه بتحيته مُعلقًا "كل الدعم لإخواننا في فلسطين".
من بين الحضور أيضًا كان عمر خليل، حفيد الموسيقار عبد الوهاب، الذي وصف في حديثه لـ"صوت السلام"، عن شعوره بالسعادة بهذا الحدث لأنه يحقق رغبة العائلة في إحياء تراث عبد الوهاب الفني، إذ تسعى للتعاون في مشاريع فنية وثقافية خاصة به، مُعبرًا عن رأيه أن التراث الفني للقرن العشرين هو تراث مصر الأصيل.
وذكر خليل أن مشروع دياب لم تشارك فيه العائلة بسبب عدم علمهم به، لكنه كان مفاجأة سعيدة بالنسبة لهم، لذلك قررت العائلة دعم تجربته.
وبعد الندوة صرح محمد دياب لـ "صوت السلام" عن الانتقادات المُوجهة لموسيقى عبد الوهاب ووصفها البعض بأنها "سرقة" للألحان الغربية، إذ نفى ذلك، مُؤكدًا على أن الاقتباس ليس شيء جديد على الموسيقيين، ومن الطبيعي أن يتأثر الموسيقي بأعمال أخري، لكن الغريب أن يصفها الجمهور بسرقة، مُضيفًا "غريب أن يكون لدينا قامة مثل عبد الوهاب، ونحاول أن ننال منها من خلال هذه الاتهامات".
ويضيف على حديثه الحفيد خليل، قائلًا "الاقتباس ده أكتر حاجة موجودة في الفن، لأن لو لم يقتبس الفنانين و يتأثروا، لكان الفن انتهى من سنوات، هذا هو طبيعة مسار الفن، وأن هذه الاتهامات كانت تصل له، ففي لقاء تليفزيوني له اعترف أنه في بداية مساره المهني اقتبس، وكان خطؤه هو عدم توضيح ذلك للجمهور، فهو في النهاية اعترف ووضّح".
حضرت نورهان علاء، 23 عام، فهي من محبي عبد الوهاب. منذ اللحظة الأولى التي سمعت فيها أغنية "جفنه علم الغزل"، من خلال والدها لأنه من محبي الفنان، تعلّق قلبها به، وفي مراهقتها زاد حبها لعبد الوهاب، فصارت تحضر الفعاليات التي تقام عنه، وتصف تجربة الندوة أنها "طرف خيط" لتبحث بشكل أعمق عن مسيرة عبد الوهاب والفن في القرن العشرين.
ومع انتهاء الندوة التي خُتمت بفقرة موسيقية للمنشد الديني، عامر سامي، وبعزف القرملاوي على العود، أكد دياب أن الحديث والكتابة عن عبد الوهاب لن يتوقف عنه، وفي المستقبل سيقدّم كُتب جديدة عن سيرة عبد الوهاب، من خلا التعاون مع أسرة الموسيقار.