في مركز الإبداع التابع لدار الأوبرا المصرية أثير نقاش حول قاهرة بين القصرين في صورتها الأدبية في أعمال نجيب محفوظ، وواقعها الذي التقطته كاميرا الأفلام التسجيلية. دار النقاش بين الكاتب الصحفي محمود التميمي والمؤرخ العمراني وأستاذ التخطيط والعمارة في جامعة كاليفورنيا بيركلي، دكتور نزار الصياد، في اللقاء الشهري لمشروع "القاهرة عنواني"، تحت سلسلة باسم"أرواح في المدينة".
وكان اللقاء الذي أقيم، أمس الأول، حيويَا وواقعيًا، مع تعرّض القاهرة لسلسلة من الإزالات، أبرزها إزالة مقابر القاهرة التاريخية، وكأنه يقف كإشارة تنبيه على ما يحدث حاليًا، مُحذرًا مما قد يجري لتاريخ القاهرة ولا يُمكن تعويضه في المستقبل.
في بداية الندوة استعرض التميمي فيلمًا تسجيليًا عن محفوظ بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب، وذكر فيه مدى تأثره بثورة 1919 وقضية الوطن مع الاحتلال الإنجليزي، وعلّق صاحب مبادرة "أرواح في المدينة" على الفيلم، مُوضحًا كيف حوّل نجيب محفوظ الحارة وجعل منها عالمًا كبيرًا، إذ اتخذ من الفتونة كرمز للقوى العظمى في عصره والصراع بين أمريكا وروسيا، أو صراع ثنائية القوة والعلم، كما جعل من التكيّات والأسبلة رمزًا للعدل الإلهي، كما في رواية "أولاد الحرافيش".
وعبر الفيلم تحدث محفوظ أيضًا عن القاهرة الجديدة في زمنه، وكيف كانت القاهرة قبلًا، حيث كانت تمتاز القاهرة القديمة بالنظافة والأناقة، كما كانت تتكون الطبقات الشعبية من العمال وطبقة صغيرة من الموظفين، وطبقة الأرستقراطيين، التي كانت لا تتعدى المليونين.
كما تحدث عن تأثير المدرسة في حياته؛ حيث الرحلات المدرسية لكل المزارات السياحية في القاهرة الكبرى، إذ كانت تحرص المدرسة على تعليم الأطفال المبادئ الصحيحة للحياة، حيث أثر فيه الواقع الذي عاشه ثقافيًا وسياسيًا، وعلّق التميمى على ذلك أن التعليم والثقافة والمشاركة هم أساس ولادة الاقتصاد في أي دولة كما ذكر محفوظ.
وفي لقاء آخر عُرض لنجيب محفوظ، حيث قال في حوار لقناة خليجية إنه تأثر باكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في 1922، مما ألهمه بكتابة رواياته الثلاث الأولى؛ عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة، مُحاولًا عبر تلك الأعمال التاريخية استعادة أمجاد المصريين في ظل الاحتلال البريطاني، وأشار التميمي إلى جهود سعد زغلول في مواجهة الاحتلال، الذين حاولوا منع نشر أي أخبار عن الاكتشاف في الصحف المصرية، لكن قائد ثورة 19 حارب حتى استطاع نشرها.
جولة تاريخية على خُطى محفوظ
بعد استعراض الفيلم والحوار التليفزيوني تحدث التميمي عن مشروع كان سيهتم بالقاهرة المحفوظية عن الأماكن الذي ذكرها نجيب في رواياته، لكنه توقف مع قيام ثورة يناير، خاصة مع تسارع الأحداث في تلك الفترة، وتغيّر الأماكن أيضًا، فمقهى "علي بابا" الذي اعتاد محفوظ الجلوس فيه، وتحوّل اسمه إلى "ركن العائلات"، أزيل عام 2014، وكان يقع في الدور الثاني من مبنى يتوسط ميدان التحرير.
وأضاف التميمي في حديثه عن مشروع الجولات أنه سيقوم بإحدى الجولات المجانية لخط سير محفوظ منذ خروجه من بيته، وحتى وصوله إلى مقهى علي بابا أو ركن العائلات في ميدان التحرير.
أعقب ذلك عرض الفيلم التسجيلى "قاهرة بين القصرين"، وهو من إعداد دكتور الصياد، بالتعاون مع الباحثين عبد العزيز فهمي وحسن حافظ، مؤسسا مبادرة "سيرة القاهرة"، وإخراج هشام عبدالحميد. عرض الفيلم تصورًا عن القاهرة القديمة؛ بدءًا من العصر الفاطمي وحتى المملوكي، وكيف كانت ملامح القاهرة تتغير بين كل عصر والآخر، حيث ظهرت المآذن العالية في العصر العباسي بعدما كانت لا تتعدى العشرة أمتار، واضيّقت الشوارع بعد العصر المملوكي، واستغرقت مدة عرض الفيلم 50 دقيقة.
واستخدم الصياد الذكاء الصناعي في تصور القاهرة في عصورها القديمة، مُوضحًا سبب تسمية مكان "بين القصرين"، وكان يقع بين قصر الملك المعز لدين الله، وعُرف باسم "القصر الشرقي الكبير"، والقصر الثاني لابنته ست الحسن، والذي تحول بعد ذلك إلى مقرات الخلفاء والأمراء.
واعتمد الفيلم بشكل أساسي على الحوار بين الصياد وحافظ وفهمي، خلال تجولهم في القاهرة القديمة، بدءًا من باب زويلة حتى شارع المعز أو بين القصرين سابقًا، ودار الفيلم حول تغيرات القاهرة وإضافات العصور المختلفة عليها.
ومن ثمّ بدأ الصياد في شرح بعض أجزاء الفيلم، الذي كان تطورًا لفيلم آخر عمل عليه في عام ١٩٩٧ تحت نفس الاسم، لكن اختلفت التقنيات، إذ أدخل على الفيلم الثاني خرائط بالذكاء الصناعي لشكل القاهرة، وأيضًا لوحات بعض المستشرقين التي أضافت الشكل الأثري لبعض المناطق.
وأشار في حديثه أن أغلب اللوحات مستوحاه من الخيال لعدم وجود مخطوطات أصلية للأماكن في شكلها القديم، ولفت الباحث العمراني النظر إلى احتمالية تكرار ذلك الأمر مع القاهرة في الوقت الحالي، التي قد تُصبح خيالًا بعد سلسلة من إزالات المواقع مثل مقابر القاهرة التاريخية.
وذكر أستاذ التخطيط والعمارة أنه في فترة إعداد للفيلم قد وصل إلى ٢٥٠ لوحة، منهم ١٨٠ تقريبًا عن شارع المعز.
حيل الذكاء الاصطناعي في صناعة أماكن تاريخية
بعد استعراض التميمي لجوانب عدّة من قاهرة نجيب محفوظ، أتاح الفرصة لأسئلة الجمهور، الذي استفسر حول مدى واقعية تقنية الذكاء الاصطناعي في الأفلام الوثائقية، فردّ الصياد أنه لا يحبذ استخدام التقنية لأنها تضيف تفاصيل غير موجودة في الموقع الأصلي.
وأوضح الصياد في حديثه لـ"صوت السلام" عن أزمة تمويل الأفلام التسجيلية في مصر، إذ تواجه صعوبة شديدة في التمويل، فلا تُموّلها إلا الجمعيات أو المنظمات الخيرية، أما عن فيلمه فكان ممول ذاتيًا من الباحثين الشباب اللذان شاركوه في إنتاجه.
وأعجب المؤرخ العمراني بمجهود الشباب في نشر الوعي بالمناطق الأثرية عن طريق الأنشطة المختلفة مثل مبادرة سيرة القاهرة التي بدأها حافظ وفهمي، وعلق قائلًا "لم أجد هذا حتى في جيلي".
وأرجع الصياد أن سبب وعي الشباب الحالي هي ثورة يناير التي خلقت جيلًا من الشباب المُدرك لثقافة بلاده وتاريخها العريق، مُشيرًا إلى أن بعض تلك الأفلام التسجيلية أصبحت متاحة على اليوتيوب، بخلاف الأفلام القديمة التي من الصعب الوصول إليها.
وذكر أن فيلمهم الأخير سيصبح مُتاحًا للمشاهدة للجميع، ولكن بعد بيعه أو إذاعته في إحدى القنوات، لتعويض جزء من تمويلهم للفيلم. وقد بدأوا في تلقى العروض بالفعل.
وأضاف الصياد أن له فيلمين مختلفين على اليوتيوب متاحين للجميع، لكن باللغة الإنجليزية، حيث عمل عليهم أثناء تدريسه في جامعة بيركلي الأمريكية، التي موّلت تلك الأفلام، مما مكّنه من العمل عليهم من الناحية التقنية جيدًا، إذ أضاف فيهما قاهرة العصر الفاطمي أو العباسى بالذكاء للصناعي أيضًا.
وعن علاقة الأدب بالعمارة، أجاب قائلًا إنها علاقة وثيقة، إذ مثّلت العمارة محورًا هامًا في الكثير من الروايات الأدبية مثل مدن غير مرئية للإيطالي إيتالو كالفينو، التي تتناول حكاية رحالة إنجليزي في المدن التي مر عليها أثناء رحلته، وكذلك كتب نجيب الذي وصف فيها القاهرة القديمة بشكل جيد وعميق، وأشار إلى أن العمارة تساعد الأدب في صنع صورة خيالية مُحكمة البناء.
ولفت الصياد النظر إلى أن الاهتمام بالعمارة الإسلامية اتسعت في الوقت الحالي، عما كانت عليه سابقًا في الدراسة الأكاديمية، وذكر أن في السابق كان منهج العمارة الإسلامية مدة دراسته أسبوعين فقط، خلال سنتين من دراسة العمارة، وكان الاهتمام كله بالعمارة الأوروبية.