خرجت من منزلها، وحول رقبتها الوشاح الفلسطيني، متجهة نحو ذاكرة فلسطين، لتعرف كيف كانت قبل القصف والمشاهد الدموية؛ فمنذ يوم ميلادها وهي تسمع اسم "فلسطين المحتلة". يرتبط في ذاكرتها اسم فلسطين بمشهد استشهاد محمد الدرة، رمز الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
هذه كانت رحلة ريم فؤاد، 25 عام، لمعرض مصور غزة الأول "كيغام دحيغاليان"، لتكتشف ريم أن كيغام وثّق صور لأطفال يُشبهون الدرة، لكنهم يلعبون ويمرحون مثل باقي أطفال العالم، بينما لم يكن ارتداءها للوشاح أمر غريب، فهي ترتديه في أغلب رحلتها، لأنها أحد الطرق التي تُدعم بها القضية، وتُوقفها عن الشعور بالذنب، إلى جانب أشكال التضامن والدعم الأخري.
على حوائط قاعة العرض في المعهد الفرنسي بمنطقة المنيرة في السيدة زينب، تواجدت صور معرض "مصور غزة كيغام: فتح الصندوق"، الذي ينطلق من خلال حفيد المصور حامل نفس اسم الجد، يوم الجمعة الموافق 26 أبريل، بالتعاون مع السفارة الفلسطينية والسفارة الفرنسية.
جاء المعرض سابق لبرنامج "هنا فلسطين"، الذي تنظمه السفارتان والمعهد، بهدف دعم فلسطين بعد مرور أكثر من 200 يوم على الإبادة والقصف الإسرائيلي على قطاع غزة، ونزوح السكان للمحطة الأخيرة رفح، وعلى غرار برنامج "هنا السودان" الذي أقامه المعهد في العام السابق بسبب الحرب في السودان، ويستمر المعرض حتى يوم 12 مايو الجاري، مُتخطيًا البرنامج الذي ينتهي يوم الأحد 28 أبريل، بعد تقديم فعاليات فنية متنوعة عن فلسطين.
تستكمل ريم حديثها وتحكي عن سبب حضورها للمعرض"كان لازم أشوف الحياة في غزة قبل الدمار والموت، اللي اعتدنا نشوفه من خلال الأخبار والسوشيال ميديا، نفسي أشوف حياتهم اليومية العادية اللي مبقتش موجودة، وأنها مبقتش مكنتش أرض فاضية زي ما بيروج الاحتلال".
تعتبر قصة أرشيف كيغام هي قصة مختلفة من نوعها؛ فالعائلة لم تكتشف إن كان لديه أرشيف إلا في 2018 من خلال حفيده، عندما وجد ثلاث صناديق وبعض ألبومات صور العائلة انتقلت من فلسطين إلى مصر، بسبب منع والد الحفيد كيغام العودة إلى فلسطين بعد نكسة 1967، فقد كان يدرس الطب بالقاهرة، وقتها لم يسع الأب سوى العيش في القاهرة وتكوين أسرة بها.
ومع اكتشاف كيغام الحفيد للثلاثة صناديق فُتح أمامه بابًا على غزة، حيث أن الصور توثق حياة القطاع منذ أربعينيات القرن الماضي، والأهم أنها توثيق لرحلة كيغام الطفل الأرمني الناجي من إبادة الأرمن في 1915، ذاهبًا مع أسرته إلى سوريا، وعندما وصل سن الرشد، انتقل لفلسطين وتزوج، وأنشأ الأستديو الخاص به "فوتو كيغام" في عام 1944 داخل غزة في شارع سيُعرف بعد ذلك باسم "عمر المختار". قرر كيغام استكمال حياته داخل غزة رغم وجود مضايقات من الاحتلال، وتوفي فيها عام 1981.
ألقى حفيد كيغام كلمة باللغة الإنجليزية، تحدّث عن فخره بتلك اللحظة وبوجوده داخل معرض جده. بدأ كيغام في البكاء وهو يلقي الكلمة حين ذكر ما يحدث في غزة الآن، وبصوت متأثر قال "في تلك اللحظة التي نتواجد فيها الآن، غزة تُقصف وتتعرض لإبادة، لذلك ليس في أيدينا سوى الاحتفاظ بذاكرتها، وتوثيق تاريخها".
اختار كيغام إلقاء كلمته باللغة الإنجليزية، بسبب تواجد عدد من الجنسيات المختلفة، فهي أرض مشتركة بينهم، من بين الحضور تواجدت ماجي آن، فرنسية تعمل بالمعهد وتقيم في مصر، فهي تدعم فلسطين وتقرأ عن القضية منذ أحداث 7 أكتوبر، وقررت الحضور لأنها اكتشفت جهلها بحياة الفلسطينيين قبل العدوان عليها، وتولّد لديها فُضولَا لمعرفة ثقافتهم الشعبية. من خلال المعرض تعرفت على طريقتهم في الأكل والملابس والاحتفال بالزواج، إلى جانب اعجابها الشديد بصور الأطفال التي لمست قلبها.
انشغل فكر كيغام بالتعامل مع أرشيف جده، بسبب كثافة الصور التي لم يُميّز منها سوى ملامح عائلته، فقرر التخلي عن التاريخ والأسماء بسبب عدم وضوحهم، وغياب بعض الفترات التاريخية بسبب التعقيدات السياسية، واختار طريقة أخرى لقراءة الأرشيف من خلال غياب هذه العناصر لتخلق غموضًا يُعبّر عن حنين الماضي، حسب ما كتبه كيغام في المنشورات المرافقة للمعرض.
لم يكن الثلاثة صناديق هم النصيب الوحيد من الأرشيف، فتحت ركام منزل كيغام في غزة توجد صناديق عديدة، لكنه قُصف بعد أحداث 7 أكتوبر مثل باقي القطاع، ولم تتمكن الأسرة الحصول عليه، بينما كانت هناك محاولات لسنوات ماضية للوصول لأرشيف العائلة بين كيغام ومروان الترزي، وهو مصور فلسطيني تولت أسرته إدارة "فوتو كيغام" بعد موته وانتقال العائلة، لكن الترزي استشهد في 19 أكتوبر الماضي خلال قصف كنيسة القديس برفيريوس بغزة، وهي ثالث أقدم كنيسة في العالم، التى استشهد فيها أغلب عائلة الترزي، وضاع مع استشهادهم أمل عودة الأرشيف.
حالف كيغام الحظ بمكالمة فيديو عبر تطبيق زووم في 2021 مع الترزي، وكأنهم كانوا يشعرون بما ستقوم به الحرب، وخلال مكالمة الفيديو عرض الترزي أغلب الأرشيف المتاح في استوديو كيغام، وكان هذا الاتصال ثيمة من ضمن أربعة ثيمات للمعرض، بينما كانت الثيمة الثانية هي صور الاستوديو، والثيمة الثالث هي ذاكرة غزة عبارة عن الصورة الخارجية بالمدينة، والثيمة الأخيرة صور عائلة كيغام.
تواجدت في المعرض جيهان الشماشرجي، ممثلة مصرية شابة وصانعة حلي، التي قالت في حديثها لـ"صوت السلام" إن أحد أدوارها لدعم القضية هو التحدث عنها على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب متابعة العديدين لحساباتهم، لذلك قررت جيهان التواجد في المعرض بصفتها الفنية.
ومن الفلسطينيين المقيمين في القاهرة، تواجد إيهام دلال بالمعرض، وهو فلسطيني ينتقل بين القاهرة والأردن، ويعمل بمبادرة "عزوة" لدعم اللاجئين الفلسطينيين. قرر الحضور لدعم كيغام بوصفه واحدًا من الفنانين الفلسطينيين، ويحكي " أنا وُلدت خارج فلسطين، والحقيقة ما كنت بعرف غير صور الدمار عن فلسطين، لكن المعرض هو صورة جديدة لفلسطين، لذلك جزء من التاريخ الفلسطيني لازم ينعرض، لأن الإبادة اللي بتحصل بفلسطين هو مسح للذاكرة، ومعرض كيغام هو شكل من اشكال المقاومة".