منذ السابع من أكتوبر الماضي، لا حديث إلا عن عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها المقاومة الفلسطينية ضد قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي، والذي يشن حرب إبادة على أهالي قطاع غزة سماها "السيوف الحديدية".
وبين قصف متواصل، وسقوط شهداء ومصابين ومفقودين، ونزوح الآلاف ممن باتوا بلا مأوى، تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى منصة لمتابعة أحداث غزة لحظة بلحظة، برغم التضييق الذي مارسته شركة "ميتا" على تطبيقيّ "فيس بوك" و"انستجرام".
فقد انطلق الفلسطينيون من داخل قطاع غزة في توثيق ما يحدث، بجانب نشر فيديوهات المقاومة الفلسطينية التي تعلن إلحاق خسائر بعناصر وأفراد ومعدات جيش الاحتلال.
بالتدريج ومع إتساع وطول مدة الحرب، شارك مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي إحساسهم بالذعر والاحتراق النفسي، فيما كشف آخرون عن حدوث "كوابيس" يومية تداهمهم في أثناء النوم، وكلها تضم مشاهد لفيديوهات متداولة من غزة، مثلًا صوت صياح طفل يستغيث من تحت الأنقاض، ونواح أم فقدت أبنائها، وأصوات بكاء المراسل وائل الدحدوح وهو يصرخ: “بينتقموا منا في الأولاد.. معلش"، بعدما فقد الزوجة والابن والابنة في غارة إسرائيلية.
يصف أحمد حسن، معالج نفسي، ما يحدث بـ"التورط في اكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة"؛ وذلك لأغلب من يتابعون أحداث قصف غزة، وخاصة الفيديوهات الأكثر تأثيرًا وجذبًا لدوائر الاكتئاب.
ويضيف: “الكوابيس أحد أهم العلامات التي تشير إلى وجود اكتئاب وصدمة نتيجة الحدث، وعلى المصابين بالاكتئاب واضطراب القلق غلق مواقع التواصل الاجتماعي هذه الفترة؛ لأنها قد تزيد من حدة أعراضهم".
30 ثانية مرت على فيديو تقريبًا، كان يشاهده محمد خالد، 21 عامًا، يمرر شاشة الهاتف وينتقل لمنشور آخر بعيد عن القصف.
يعيش محمد حالة إنكار لما يحدث؛ بسبب إحساسه بالعجز والذنب تجاه الفلسطينيين، وعدم استيعابه لحجم الدمار والقضاء على أكثر من عشرة آلاف إنسان وقصة وأحلام، ويحاول توفير طاقته، ويبحث عن فيديوهات ساخرة، تصرفه عن الأحداث قليلًا.
شارك محمد في فعاليات تبرع وتظاهرات لدعم القضية الفلسطينية، لكن ذلك لم يمنعه من تكثيف مشاهدته للفيديوهات الكوميدية حتى لا يغرق في الاكتئاب، إذ يخشى فقدان طاقته القليلة قبل الامتحانات، حيث تزامن القصف مع اختبارات الـ"ميدتيرم"، ويلاحظ محمد أن زملائه أيضًا فقدوا طاقاتهم، وكأن سحابة سوداء أمطرتهم.
يقول أحمد حسن، المعالج النفسي: "إن الأحداث الشبيهة بالقصف الحالي على قطاع غزة مثل "الانتفاضة الأولى والثانية عاميّ 1987، 2000"، لم يكن لهما نفس التأثير النفسي العميق؛ لعدم وجود مواقع تواصل اجتماعي مثل الآن، والتي تحول فيها كل هاتف إلى قناة تليفزيونية تنتج عددًا لا نهائيًا من المادة المصورة التي تزيد من عمق جراحنا".
يضيف: “صورة الشهيد محمد الدرة لم تفارق ذاكرتنا منذ عام 2000، وهي صورة واحدة فقط، الآن نتلقى كل يوم تأثير صورة الدرة أكثر من مرة".
"غزة تنزف بني آدمين.. واحنا يدوب بنعيط"، هكذا تبدأ مي جودة، 33 عامًا، حديثها عن معاناتها اليومية المتواصلة منذ شهر على القصف، إذ عادت مرة أخرى إلى الاكتئاب الذي أصابها منذ سنوات فيما كانت تحاول التعافي منه، لكن متابعتها للأحداث جعلها تستسلم للاكتئاب مرة أخرى.
ولا تفارق أصوات الأطفال والقصف أذن مي كل يوم، فيما عيناها معلقتان بمشهد لطفل تحت الأنقاض، كل هذا فيما تمارس نشاطها اليومي المعتاد، وتتخيل في لحظة كم شخص مفقود هناك وبماذا يشعر.
تقوم مي بأقل الأنشطة المطلوبة منها يوميًا؛ لأنها في مزاج وحالة سيئة منذ الأحداث، وتقول: “مش عارفة حتى أطبطب على نفسي، وفيه ناس تانية بتتألم أضعاف ألمي".
كما تعاني مي من نوبات هلع تصيبها من آن إلى آخر، إذ لا تستطيع التنفس بانتظام، فيما تتذكر الأطفال تحت الأنقاض المحرومين من التنفس، وتشعر هي كأن الأنقاض فوقهم مثل جبل على صدرها، وذلك في كل مرة داهمتها النوبات.
الستينية نادية محمد، أغلقت تطبيق "انستجرام"؛ بسبب كثرة صور ومشاهد وفيديوهات قصف غزة، وتوقفت عن المتابعة.
وبحكم معاصرتها للانتفاضات السابقة، فهي ترى أن ما تتعرض له الآن أكثر من باقي الأحداث الماضية، تقول: “في السابق كنا نعتمد على الصحف ونشرات الأخبار والمعلومات المتداولة بين الزملاء، أما الآن فحجم التداخل في الأحداث لم أشعر به قبل؛ لأن كثيرًا من الفيديوهات تجعلني أبكي وأشعر بالذنب الشديد".
ويصف موقع "مايو كلينك" المتخصص في التقارير الطبية، "اضطراب ما بعد الصدمة" بأنه "حالة صحية عقلية يستثيرها حدث مخيف، قد يحدث لك أو قد تشهده"، وأعراضه تتضمن استرجاع الأحداث، الكوابيس، القلق الشديد، والأفكار التي لا يمكن السيطرة عليها بخصوص الحدث، ومشاهدة كوابيس مزعجة عن الحدث المؤلم نفسيًا، وتوتر انفعالي حاد أو ردود فعل جسدية تجاه أمر ما يذكر بالحدث المؤلم نفسيًا".
وتقول منظمة الصحة العالمية، إن اضطراب القلق من أكثر الاضطرابات شيوعًا عالميًا، إذ أصيب 301 مليون شخص على مستوى العالم به، وفق إحصائية عام 2019، فيما تضيف المنظمة أن أكثر من 300 مليون شخص أصيب بالاكتئاب من عام 2005 إلى 2015، بينما أنهى أكثر من 700 ألف شخص حياتهم بسببه.
الأطفال أيضًا كان لهم نصيبهم من الحزن؛ بسبب الأحداث، تقول سهام محمد، 37 عامًا، والدة طفل عشر سنوات: “أحاول السيطرة على هاتفه، ألغي متابعته للصفحات التي تنشر عن الأحداث، تحديدًا الفيديوهات حتى لا تؤثر عليه، لكن لاحظت بعد أيام من القصف اهتمامه بتطبيق "انستجرام" فمسحت التطبيق من هاتفه، وخفضت شحن باقة الانترنت من مرتين إلى مرة شهريًا، لكي أحِد من استخدامه".
كيف إذن ستنمي سهام وعي ابنها بالقضية الفلسطينية؟.. تقول: “اكتفي بأن أحكي له عن فلسطين وتاريخ الاحتلال الإسرائيلي وطبيعة وثقافة الشعب الفلسطيني".
ولاحظت سهام مؤخرًا اهتمام ابنها بثقافة مقاطعة المنتجات الداعمة للكيان الإسرائيلي، تضيف بفخر: “يرشدني دومًا للمنتجات التي يمكن أن نقاطعها، ويغضب مني حين أشتري منتج ضمن قائمة المقاطعة".
بمرور أيام الحرب، أصبحت سهام أكثر حرصًا على حماية نجلها، إذ تصحبه يوميًا إلى المدرسة والدروس الخصوصية، قبل الحرب كانت تدفعه للاعتماد على نفسه فقط في هذه المهمات.
ويقول أحمد حسن، المعالج النفسي، إن الأحداث يمكن أن تؤثر على نفسية الأطفال، داعيًا لضرورة حجب الفيديوهات الحساسة الخاصة بالدماء والأطفال تحت الأنقاض عن الأطفال؛ حتى لا يصابون بصدمة نفسية تؤثر عليهم في المستقبل، مع ضرورة استبدال ذلك بفيديوهات وكتب عن فلسطين مناسبة للأطفال لتعزيز وعيهم بالقضية.
ويتمنى حسن، أن يعمل صناع المحتوي العربي على فيديوهات عن فلسطين مخصصة للأطفال.
تصف مي جودة، الحالة العامة بـ"كأن شيئًا تغير داخلنا تجاه القضية والعالم ولم يعد مرة أخرى"؛ بسبب مواقف الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان من القصف الإسرائيلي، بجانب عودة الإيمان لديها وأقرانها من العرب بالقضية الفلسطينية.
والمزاج السئ الذي أصاب الجميع منذ الأحداث، يفسر المعالج النفسي، سببه بالتعاطف مع القضية الذي تحول إلى اتحاد مع حالة الذعر، يقول: “هذا أمر غير صحي، نحن في النهاية لدينا حدود نفسية صحية تفصلنا عن الأحداث، وعلينا أن نتعاطف ونقدم الدعم فقط، لأن الاتحاد مع حالة الذعر قد يؤدي إلى نتائج عقلية غير مفيدة للجميع".
ولا يجد أحمد حلًا سوى التبرع لدعم فلسطين، وحضور ندوات ومظاهرات، والنشر عن القضية؛ للتخلص من إحساس الغضب والذنب، والشعور بقليل من الرضا.
يجلس أحمد حسن، المعالج النفسي، على مكتبه في عيادته، منتظرًا باقي الحالات، وفي أثناء دخولهم يتوقع أن حديثهم سيدور في الجلسة عن تأثير أحداث غزة عليهم.
وفي كل مرة ينصحهم أحمد: “ابتعدوا عن الفيديوهات والصور، تأثيرها أضعاف تأثير متابعة الأخبار المكتوبة، واختتموا يومكم بمشاهدة فيلم أو مسلسل يشعركم بالسعادة، حتى تهدأ حدة المتابعة، ولتنعموا بنوم لطيف بلا كوابيس، قبل بداية يوم جديد تدعمون فيه القضية الفلسطينية بكل السبل المتاحة".