تختلف الذكريات والحكايات الشعبية بين أطياف الشعب المصري دائمًا، فتجد القصص المثيرة للاهتمام، وذكريات الزمن الجميل، لكنهم يتفقون جميعًا عند سماع جملة "حرب السادس من أكتوبر"؛ فتتشابه الحكايات، وتُكمل بعضها، ويتلاقى أبطالها في الأحداث.
في الذكري الـ ٤٨ من حرب أكتوبر تعرض لكم "قلم المنصورة" حكايات لم نسمعها من قبل عن السادس من أكتوبر، من قلوب أهالي المنصورة، وبيوتهم.
تقول وفاء محمد ـ 55 سنة ـ : "وقت ما سمعت عن حرب أكتوبر كان عمري حوالي 7 سنوات، سمعنا عنها في الأخبار والراديو، كان ابن خالتي و ابن عمه ـ عريس جديد ـ من العساكر المجندين في الجيش المصري، فكان بيتنا طول فترة الحرب مليء بالناس والخوف والتوتر عليهم".
وتكمل: "منازل الجيران لم تكن خالية من البكاء، والنحيب خوفًا على أولادهم، لأن كل بيت كان فيه عسكري في الجيش، والشارع كان دائمًا في حالة حزن و خوف".
أسندت ظهرها في محاولةٍ لتذكر طفولتها في حرب أكتوبر، وتابعت: "أكثر ما كان يخيفني كطفلة، هو صوت الغارات والسرينة، فعندما كنا نسمعها ندخل نجري إلى البيوت، ونغلق الشبابيك والأبواب؛ كنت طفلة لا أفهم ما يحدث، ولماذا يختبئ الجميع، لكن بعد دقائق كان النور يعود للشارع، ويبدأ الجميع في الخروج".
وتتابع: "بعد الحرب بأيام والدتي، وبنت خالتي بدأوا يسافروا سيناء وفايد للبحث في مكاتب الجيش عن ابن خالتي و ابن عمه، لكنهم لم يتوصلوا في بحثهم غير عن ابن خالتي، واكتشفنا أنه تم أسره من قبل الاحتلال لمدة 6 أشهر، إلا أن ابن عمه استشهد في المعركة تاركًا زوجته ورضيعها".
وتضيف: "بعد عودة ابن خالتي من الأسر كان في بيتنا و في الشارع فرحة وحزن في وقت واحد ، فرحةً بعودة ابن خالتي بعد شهور من الأسر و باقي الجنود و فرحة النصر، وحزن على كل الشهداء لأن وقتها في منطقتي كان في كل بيت شهيد في الحرب، لكن كان الناس يستأجرون عربات يهتفون ويغنون فوقها بالنصر".
حفرت حرب أكتوبر ذكراها في أذهان الجميع، خصوصًا الأطفال؛ فبالرغم من مرور العمر، لا يزالون متذكرين كل ما عاشوه من مشاعر متداخلة و مختلفة بين الخوف، والفرحة، والاستنكار.
تحكي لنا أنهار كمال، ـ 57 سنة ـ تجربتها مع هذه الأحداث، قائلة: "كنت بتابع وأنا في عمر الـ 10 سنوات أحداث الحرب، من التلفاز، أو الراديو، وسمعنا بأن هناك عجز في أفران الخبز، وبدأ الجميع يقلل استهلاكه حتى يكفي الإنتاج الجنود على الجبهة".
وتتابع: "كان هناك تعاون بين الناس والأسر في الشوارع والبيوت، كان الكل عنده استعداد يساعد الجنود، كان والدي عنده شعور دائم ورغبة قوية في التطوع، كما كان عمي عسكري على الجبهة خلال الحرب".
وتضيف: "كنت أشعر بعظمة ما يحدث، وكان الناس يصطفون بالزغاريد والهتافات في استقبال أتوبيسات العساكر العائدين من على الجبهة، وعندما عاد عمي كان في بيتنا حالة من الفرح العارم، وتوافد علينا الزوار من اهالي المنطقة، يسألون عن أبنائهم الذين لم يعودوا".
ويحكي لنا أحمد حنيجل، ـ 60 سنة ـ قصته قائلًا: " كنت شابًا أعمل في محل بجانب البيت، وقت ما سمعت في الأخبار عن الحرب بين الجيشين المصري والإسرائيلي، جريت إلى البيت لأهلي لأشغل الراديو ليعلموا بما حدث، فكان لي اثنين من أسرتي في الجيش، وكان عمري 13 سنة".
ويكمل: "كنا نسمع عن أخبار الجيش وننتظر أي أحد كي يطمئنا على شبابنا هناك، كان بيتنا لا يخلو من الزوار القادمين للجلوس مع امي وخالتي انتظارًا لأخبار جديدة من على الجبهة".
ويتابع: "كنا نسمع بضربات الجوية و نهتف بالنصر مع كل بيان جديد، والناس كانت بتمشي في الشوارع تدعيّ للجيش، كنا نسمع صفير الغارات نجري على المحلات نقفلها، ونروح علي بيوتنا لأهالينا بسرعة ليغلقوا على أنفسهم الأبواب، وبمجرد انتهاء الغارة يخرج الجميع للشارع للهتاف، كان هذا حال يومنا بين الهتاف، والخوف على الجنود، والفرحة بالنصر".
وأكمل: "يوم عبور القناة بعد إذاعة البيان، امتلأ الشارع بالناس، وتعالى الهتاف والموسيقى في الراديو، وفي الشارع، والنساء بدأت الزغاريد، كان الجميع عنده فخر بالحرب والنصر، يعيش حالة فرحة تفوق السماء".
"حرب أكتوبر مرتبطة بالنسبة لي بالروح التي كانت منتشرة بين الناس، الكل كان بيساعد الجيش بكل اللي يقدر عليه، الأهالي في الشوارع كانت بتدعم الجيش بالهتاف المستمر مع كل عربية أو أتوبيس للجيش بيشوفوها، كانت روح العزيمة منتشرة في الجو، الناس عندها استعداد تام للمشاركة، رجال وستات وأطفال، أدرك الجميع صعوبة الموقف، وأهمية تكاتف الشعب".
يحكيها لنا محمد أحمد ـ 70 عامًا ـ وبشيء من الحنين يضيف في حديثه معنا: "الأسر كانت بيوتهم وقت الحرب بيت واحد، الاُلفه كانت هي روح الحرب في شوارع المدينة".
وعن شعور الأمهات، تقول زينب حماد 85 عامًا ـ: "ابن اختي و ابن عمه كانا على الجبهة، وأول ما سمعنا عن بدء الحرب جرينا في الشوارع بحثًا عنهم، كنت أصحو لتحضير الإفطار لأبنائي ثم أنزل إلى الشارع أسمع الراديو وكلام الناس، كانت الأيام تمر ثقيلة بين خوفنا عليهم، وشعورنا بالمسؤولية تجاه الوطن".
وبصوت تملؤه الثقة، تقول: "كان عندي استعداد أبعث أكبر أولادي وقتها، وكان عمره 20 سنة، ليساعد العساكر والجنود، ومجرد ما سمعنا بانتهاء الحرب سافرت سيناء وفايد أبحث عن ابن اختي و ابن عمه".
وتكمل: "بعدما بحثنا طويلًا عرفنا أن ابن اختي أسيرًا لدى الاحتلال، والثاني لم تصل عنه أي معلومة، وكانت رحلات البحث نسمع فيها حكايات عن جنود اهتفوا وجنود لم يتم التعرف عليهم، فكان الخوف يسيطر علينا، إلى أن تأكدنا من استشهاد الجندي الثاني وكان وقتها زوجته حديثة ولادة لابنه الأول، إلى الآن أتذكر كل موقف مر علي وكل شعور انتابني".
حرب أكتوبر ذكرى مُخلدة للأبد، ذكرى الحرب، وذكري الشوارع، مشاعر وقصص سجلتها عقول المصريين حتى لو لم يكونوا على الجبهة، مشاهد عصية على النسيان، في الماضي والحاضر والمستقبل.