على مدار أشهر، احتل توفير الاحتياجات الغذائية اليومية عند أسرة شيرين -ربة منزل – مساحة كبيرة من النقاش الدوري وحسابات الاستغناء والاستبدال والتقليل في ظل غلاء وارتفاع أسعار مستمرة ودخل شهري ضئيل.
تقول: "الأسعاركل شوية بتزيد، والمصروف اللي كنت اشتري به كميات معينة أصبح لا يكفي لشراء نفس الكمية، وعند طلبي مستلزمات طبخ الوجبة من الخضراوات واللحوم من زوجي قد لا أحصل عليها، فإذا طلبت بصل من زوجي يتشاجر معي".
لا يتعدى دخل أسرة شيرين ذات الأفراد الخمس، هي وزوجها وأبناؤها الثلاث الطلاب في مراحل التعليم قبل الجامعي، 3 آلاف جنيهًا مصريًا. فالزوج يعمل باليومية في مجال بيع الخضروات، وعلى مدار العام الماضي، واجهت الأسرة قرارات متلاحقة لتعويم الجنيه وانخفاض قيمته أمام الدولار الأمريكي، وارتفاع متضاعف في كل أسعار السلع والخدمات، دون أن ينعكس ذلك أيضًا على ارتفاع في دخلهم الشهري الذي زاد بنسبة ضئيلة جدًا.
يحل شهر رمضان هذا العام على الأسرة التي تتشابه أحوالها مع ملايين من الأسر المصرية حاليًا وسط قرار رسمي جديد بالتعويم، أسقط دخلهم الشهري 40% من قيمته، يقفوا جميعًا وحدهم أمام اتخاذ قرارات مصيرية جديدة في كيفية الانفاق خلال الشهر، الذي بات يدور حول احتياجات رئيسية من سداد قيم الإقامة والغذاء.
ومثلما اتخذت شيرين في الشهور الماضي قراراتها الخاصة باختيار الوجبات الغذائية التي تعدها للأسرة، ستضطر إلى نفس الأمر في شهر رمضان، فالوجبة التي كانت تعتاد على إعدادها لأسرتها مثل الملوخية والبامية مع اللحم والأرز، بات قرار طبيخها يستلزم تكلفة تصل إلى 550 جنيه تقريبًا، بالإضافة إلى ضرورة توافر مكونات أخرى مثل البصل والزيت والتوابل. أي أنها بحسبة بسيطة ستضطر إلى انفاق ما يقارب 17% من دخلها الشهري لوجبة غداء واحدة لمدة 3 أيام.
في الشهور الماضية، كانت الأسرة تحاول أن تكون هذه الوجبة في وجباتها الشهرية، وباقي الشهر يتنقلون بين وجبات تعتمد أكثر على النشويات والبقوليات، وقد يدخل فيها الفراخ الأقل سعرًا عن اللحم، مثل ن الشاورما مع مكرونة، المحشي وفي الأغلب من "الفلفل" لانخفاض سعره عن الأصناف الأخرى، أما في الشتاء تعتمد على البقوليات من العدس والكشري لكن بشراء كميات أقل لارتفاع سعرها.
بخلاف نصيب الاسرة من الفرخة أو كيلو ونصف من اللحوم الأسبوعي والذي لا يكون بشكل ثابت، تتجه "شيرين" إلى اللحوم المجمدة وسيلة للتوفير لانخفاض سعرها بدلاً من السلع الطازجة موضحه: عند الحاجة في طبخ أصناف مختلفة اشترى الأجنحة والوراك والكبدة وخاصة اللحم المفروم لأن شراء نصف كيلو منها سيكلفني 150 جنيه في وجبة تكفي نصف اليوم، فاتجه إلى الوجبات التي تكفي الوجبتين فحتى إذا قررنا تناول وجبة عشاء خفيفة تتكون من بيض وجبن و لانشون ستكلفني 100 جنيه فاقدمها للأسرة مرة واحدة في الأسبوع.
وخلال الندوة التي عقدها مشروع حلول للسياسات البديلة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة تحت عنوان “أين وصلت أرقام الفقر في مصر؟”، بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على الفقر، أكتوبر الماضي، قالت الدكتورة هبة الليثي أستاذة الإحصاء بجامعة القاهرة ومستشار الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في كلمتها التي نشرتها عدد من الصحف والمواقع المحلية، إن هناك علاقة وثيقة بين الفقر والأمن الغذائي، مشيرة إلى أن الأسر الفقيرة تعاني من التنوع الغذائي وأنها قللت من الأغذية مرتفعة السعر مثل اللحوم والدواجن والأسماك نتيجة التضخم واتجهت لأغذية أقل سعرًا وقيمة غذائية مثل الكربوهيدرات والمعجنات.
لم ينشر الجهاز منذ عام 2020 تقاريره الخاصة بمعدل الأسر الواقعة تحت خط الفقر في مصر، فكان كان 29.5% حتى مارس من نفس العام، بينما توقعت دراسة مستقلة أعلنت عنها الليثي في نفس الندوة أن النسبة وصلت إلى 35.7% في يوليو الماضي، أي ما يقارب 40 مليون شخص يعيشون في حالة فقر خلال عام 2023.
ووفقاً لدراسة نشرها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لعام 2022 بعنوان "أثر الأزمة الأوكرانية الروسية على الاسرة المصرية" افادت أن %65.8 من الأسر تأثر نمط انفاقهم على السلع الغذائية وغير الغذائية نتيجة للأزمة. كما انخفض استهلاك حوالي %74 من الأسر من السلع الغذائية و%90 من الأسر انخفاض استهلاكها من البروتينات (لحوم وطيور واسماك) عما كان قبل بداية الأزمة.
تقول شيرين أنها اضطرت منذ أشهر الاستغناء عن شراء الحليب،: “ارتفع سعر العلبة الواحدة من 12 جنيه إلى 40 جنيه، وهي زيادة تصل إلى الضعف ولا تكفينا سوى ليومين فقط". أي أنها تحتاج إلى 600 جنيه شهريًا لتدبيره.
ولا يقتصر هذا فقط على التأثير السلبي المتوقع على القيم الغذائية التي كانت تحرص الأسرة على تقديمها لأطفالها الثلاث، بل أيضًا على أشياء بسيطة كانوا يحبونها، مثل "كوب الشاي بالحليب"، وباتت مجرد شاي فقط مع البسكويت المنزلي، تقول: “قفز سعر باكو الشاي الواحد من 30 جنيهًا إلى 70 جنيهًا وهو ما يزيد عن الضعف، وارتفع السكر إذا كان موجود أصلًا في السوق إلى 50 جنيه للكيلو الوحد”.
لا ترضى شيرين عن قرارها بنزع الحليب عن افطار أبناؤها، ولا عن القرارات التي ستضطر إلى اتخاذها حال استمرار الأسعار في الارتفاع مرة أخرى بعد القرار الحكومي الأخير بتحرير سعر صرف الدولار، وارتفاعه على المستوى الرسمي إلى ما بين 45 جنيه إلى 50 جنيه.
تروي أن همها الأسبوعي بات يدور حول التفكير في تدبير الوجبات خلال الأسبوع، وحالة زوجها الصحية المريض بالسكري. فما بالك بباقي الاحتياجات على مستوى التعليم والصحة والخدمات ولم تشير حتى إلى أية خطط للترفيه.
ولا يختلف الأمر كثيرًا مع "شيرين"في أسر أخرى فتروي ايمان، اسم مستعار، طلبت عدم ذكر اسمها، لـ "عين الأسواني"، أن الأسرة تمتلك شهريا بين 5 لـ 8 آلاف جنيه مرتب زوجها موظف في القطاع الحكومي إلى جانب عملها بالقطعة بمبلغ يتراوح بين 200 ل500 جنيه حسب الحاجة في مجال التنمية وأغلب مشاركتها في العمل التنموي يكون بدون عائد مادي.
" ليس كل مجالات الترفيه وحدها التي تم الاستغناء عنها من رحلات الترفيه و العزومات العائلية"، فنظرًا للأسعار قررت أن أتوقف عن بعض الضروريات موضحة: امتنعنا عن الدروس الخصوصية التي تستقطع جزء كبير من ميزانية الأسرة في المادة الواحدة التي تكلف أكثر من 100 جنيه في الشهر الواحد مع ثلاثة أطفال في المرحلة الثانوية والابتدائية، إلى جانب التوقف عن زيارة الطبي في حالة المرض والاكتفاء بتناول الدواء.
تنفق الأسرة قرابة 4000 جنيه شهريا تكلفة إيجار مسكن وفاتورة كهرباء والمبلغ المتبقي من الراتب يتم إنفاقه على السلع الغذائية الأساسية والاتجاه إلى لاستغناء عن بعض السلع كحليب الإفطار اليومي لأطفالها نظرا لارتفاع سعره والاعتماد على الوجبة المدرسية التي توزع في المدرسة يوميا على الطلاب مثل غيرها من دوائر معارفها حسب قولها أو تقليل كميات الطعام والاعتماد على مصادر اخرى، وتوضح قائلة: الاعتماد الحالي على الغذاء من البقوليات بعدما كانت تطبخ مرة واحدة في الاسبوع اصبحت من الاساسيات حتى نشعر بالشبع، واستخدام حيلة اضافة فول الصويا مع اللحوم لتزويد الكمية والتي لا تحتوي على فائدة غذائية كبيرة.
رغم أن دخل الأسرة من راتبين إلا أن هذا لم يمنع تأثر الحصة الأسبوعية الثابتة للأسرة من اللحوم والدجاج، فبعد أن كانت تتناول الأسرة اللحوم والدجاج مرتين في الأسبوع أصبحت مرة واحدة أو أقل، بخلاف الاصناف الأخرى التي أصبحت من الرفاهيات كالمحاشي والوجبات السريعة والبشاميل والبرجر، أصبح اتجهنا للأكل الصيامي مثل المسيحيين والعودة لوجبات أجدادنا المقتصدة التي تعتمد على مكونات رخيصة من "الجورمة".
ورغم أن معظم مشاركتها في العمل التنموي يعتمد على التطوع مجانا لكن لمعايشتها للأحداث تقول لعين الأسواني: في هذه الأوضاع الإقتصادية تجعلني أتمسك بالاستمرار أكثر فالمشاكل الاقتصادية زادت من العنف النفسي والبدني داخل الأسر التي نتعامل معها في العمل فمن الضروري أن نستمر في دعم السيدات.
وتشير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة إلى أن الشخص الذي لا يمتلك ما يكفي من الموارد للحصول على غذاء صحيي يدخل تحت نطاق "انعدام الأمن الغذائي"، الذي تزداد خطورته إذا وصل هذا الشخص إلى الجوع. تقول المنظمة على موقعها الالكتروني أن هذا الشخص يكون حصوله على الغذاء غير مؤكد، وتضيف: “قد يضطرون إلى التضحية بالاحتياجات الأساسية الأخرى، لا لشيء إلا لكي يتمكنوا من تناول الطعام. وعندما يأكلون، قد يكون كل ما هو متاح بسهولة أو ما هو أرخص، وقد لا يكون من أكثر المواد المغذية. فزيادة حالات السمنة وغيرها من أشكال سوء التغذية يُعتبر جزئيا نتيجة لهذه الظاهرة. إذ إن الأطعمة المصنعة كثيفة الطاقة والتي تحتوي على نسبة عالية من الدهون المشبعة والسكريات والملح غالباً ما تكون أرخص وأسهل من الفواكه والخضروات الطازجة".
ويعني تناول هذه الأطعمة تلبية الاحتياجات اليومية من السعرات الحرارية، لكنك تفتقد إلى العناصر الغذائية الأساسية للحفاظ على صحة جسمك ووظائفه بشكل جيد. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدّي إجهاد العيش بعدم اليقين في الحصول على الطعام، والفترات من دون طعام إلى تغييرات فسيولوجية يمكن أن تسهم في زيادة الوزن والسمنة. وقد يواجه الأطفال الذين يعانون من الجوع وانعدام الأمن الغذائي وضعف التغذية اليوم، خطرًا أكبر من زيادة الوزن والسمنة، والأمراض المزمنة، مثل مرض السكري في وقت لاحق من العمر. وفي العديد من البلدان، يتعايش سوء التغذية والسمنة ويمكن لكلاهما أن يكون نتيجة لانعدام الأمن الغذائي.