ولدتُ ذات يوم بين يديّ صانع ماهر. في أحد الأزقة، خلال العصر الفاطمي العتيق، حيث تتعانق جدران البيوت الحجرية مع الأضواء المتلألئة، كان جسدي نحاسيًا مزخرفًا بنقوش معقدة تحكي قصص الزمان، وزجاجي الملون يُشع بألوان دافئة تعكس أضواء المساء كأنها سحر سماويّ.
كنتُ فانوسًا رمضانيًا، يحمل في جوفه شغف الأطفال الذين يطوفون بي الشوارع في ليالي الشهر الفضيل، ينشدون أغاني رمضان، فتغمرني فرحة لا تُنسى.
لكنّ مع مرور الزمن تغيّرت، فذات يوم وجدتُ نفسي مهمًلا موضوعًا على رفّ قديم في متجرٍ مليء بالتراب، وقد غطّتني طبقة من الغبار. كان صاحب المتجر العجوز يقول بحزن: "لم يعد أحد يشتري الفوانيس التقليدية، الجميع يطلب تلك التي تحمل أشكال الشخصيات الحديثة".
تحسرتُ على أيامي الماضية، بعدها حملني صبي صغير، نظر إليّ بفضول، فغمرتنى الفرحة، ثم تركني جانبًا واختار فانوسًا بلاستيكيًا يصدر ألحانًا إلكترونية، ويحمل صورة أميرات ديزني، شعرتُ بشيء غريب، وكأنّ الريح همست لي بلعنة خفيّة فجأة، لم أعد أنا!
عندما نظرتُ إلى نفسي، وجدتُ أن جسدي النحاسيّ صار بلاستيكيًا، وزجاجي الملون اختفى ليُستبدل بصور لأميرات ترتدي فساتين براقة، فلم أعدُ الفانوس المعتاد. لقد صرتُ شيئًا غريبًا عن نفسي!
في تلك الليلة، نُقلتُ إلى بيت طفلة صغيرة تُدعى ليلى، وما إن حلّ الظلام، حتى انبعث مني وهجٌ خافت، ووجدتُ نفسي أنطق لأول مرة: "أين أنا؟ ما هذا الذي حلّ بي؟!".
ارتجفت ليلى، ثم نظرت إليّ بدهشة وهمست: "من... من يتحدث؟"
أجبتها بأسى: "أنا فانوس رمضان! لكنّي لم أعد كما كنت! كنتُ أصنع البهجة بنوري الدافئ، وأحمل روح الشهر الكريم، أما الآن... فأنا لا أعرف نفسي!"
ابتسمت ليلى وقالت برقة: "لكنك جميل، انظر! لديك أميرات على سطحك!"
تنهدتُ وقلتُ لها: "لكنني لم أُخلق لأكون هكذا، كان لي ضوءٌ خاصٌ بي، وكان لي تاريخٌ يروي حكايات الجدات، وأغانٍ ينشدها الأطفال، لم أكن مجردَ قطعة بلاستيكية براقة!"
سكتت ليلى للحظة، ثم همست: "إذن، احكِ لي قصتك".
بدأت أروي قصتي، فحكيت لها عن ليالي القاهرة القديمة، عن الأطفال الذين كانوا يحملونني في الأزقة وهم يغنون، وعن الصانع الذي أبدعني بيديه ليجعلني رمزًا للفرح، كنتُ أتحدث، وكانت ليلى تستمع، وعيناها تلمعان بشغف.
وفي الصباح، ركضت ليلي إلى والدها، وقالت: "أبي، أريد فانوسًا نحاسيًا مثل الذي كان لديك وأنت صغير!"
ابتسم الأب بدهشة، ثم أخذها إلى السوق، واشترى لها فانوسًا تقليديًا أصيلًا، وقتها شعرت بالسعادة، فقد عادت روح رمضان إلى قلبها، أما أنا؟ فقد بقيتُ هناك، في أحد أركان غرفتها، لكن لم أعد مجرد قطعة بلاستيكية، فقد أصبحتُ فانوسًا يروي القصص، فانوسًا يوقظ الذكريات، فانوسًا يتحدث بلغة الزمن الجميل.