البحث عن طريق العودة

تصوير: تعبيرية

كتب/ت سلمي الهواري
2023-08-30 23:28:31

أمر بالشوارع الخالية، أمشي بين الحواري والبيوت، أفتقد تلك الأوقات التي كنت أكتشف فيها الأماكن الجديدة.. أمشي أتفقد كل شيء حولي، أبحث عن حكمة لما أعيشه..

كان اليوم مشمسًا ولطيفًا، يملؤه بعض الهواء البارد الذي يرطب عليك الوقت الذي تقضيه خارج منزلك.

أحاول استجماع أشلاء روحي وأفكاري، ولا أعتقد أنها محاولة ناجحة إطلاقًا، فهي تفشل في كل مرة لكنني لازلت أكُابر، رغم كل الأمور التي أمر بها..

اليوم أجلس في العيادة أنتظر دوري؛ فهو يومي الأول في المتابعة مع أخصائي نفسي فأنا مررت بتجربة تحتاج العلاج حقًا.

استرجع ذكريات العام الماضي في حياتي، أتذكره رغم أنني لم أنسه.. لكني لم أشعر سوي بالسوء، والتوتر، والاضطراب، والصراعات النفسية يوميًا، بين ما يدور داخلي وما يدور حولي.

هل شعرت من قبل أنك على حافة البحر؟ لا تستطيع القفز؟ ولا يمكنك العودة مرة أخرى؟ أو شعرت أنك في حالة اختفاء لكن يراك الجميع؟

ــ أستاذة منة، جاء دورك.

ــ شكرًا

دخلت إلى الغرفة التي ستساعدني في التخلص من كل هذا، ربما هي الوحيدة من ستسمعني دون أن تعاتبني على كثرة صياحي.

كانت الغرفة بسيطة ليس بها الكثير من الأثاث، سوى مكتب، وكرسيين، وشيزلونج، بجواره منضدة عليها زجاجة مياه وبعض الأكواب، أما الجدران تزينها رسومات فنية مريحة للعين والاعصاب.

ـ أهلًا يا منة، أنا دكتورة سارة، سأتابع حالتك الفترة المقبلة.

ـ أهلًا بكِ.

ـ حدثيني عن نفسك ؟

منذ عام مر لم أُسأل هذا السؤال، حتى أنني نسيت كل الإجابات التي عرفتها خلال السنوات الماضية، اعتدلت في جلستي وأخذت تنهيدة بسيطة.

ـ اسمي منة، وعمري 18 سنة، أنهيت اختبارات الثانوية العامة منذ أسبوعين، وكنت أحب الرسم، والتنزه، لكن..

ـ لكن ماذا ؟

ـ تغير كل ذلك مع بداية رحلتي مع الثانوية العامة، تخليت عن كل شيء أحبه في بداية العام الدراسي، حتى أحقق نتائج متميزة خلال العام، وجمعت كل أوراقي وأقلامي، ووضعتهم في مكان بعيد عن يدي، وانهمكت تمامًا في المذاكرة والدروس، وأخبار الاختبارات، حتى غرقت في الضغط والتوتر.

ـ أكملي

ـ حاولت في خلال السنة، أن أؤدي كل ما أستطيع، لكنني لم أقدر.. كأن طاقتي تقف عند نقطة معينة، لا تكمل بعدها، وأنا مدركة أن هذه ليست طاقتي الطبيعية، لكنني كنت أحاول كل يوم أتخطى كل ذلك، وكل ما تعرضت له خلال العام.

ـ ما الذي تعرضتِ له؟

ـ صدمات في أصحابي، وإحباط من معلميني، ومعارك نفسية داخلي، وفي كل مرة أواجه مشكلة في عدم قدرتي على استيعاب المزيد من المعلومات، وبيني وبين كل درجة امتحان مسافة.

ــ ……

ـ تعرضت لضغط وتوتر عصبي كبير، النتيجة هي التي تحدد مستقبلي، هي من ستختار من أنا وماذا سأفعل، وفي النهاية، لن يوجد أي تقدير لما بذلت، فالجميع يرى أنه لم يكن كافيًا، لكنني مدركة أنها نهاية طاقتي، وآخر قدرتي على الاستيعاب.

ـ ولماذا تهتمين بما يقال وأنتي مُدركة لكفاية ما أديتيه؟

ـ لأنني بحاجة للدعم بعد نهاية هذه السنة، لقد أنهيت امتحاناتي لكني لم أعد لنفسي، لم أجدني، ماعدت قادرة على ممارسة أي شيء أحبه، عاجزة عن الخروج، والتكلم، والتعبير عما بداخلي، ولذلك أتيت إلى هنا.

ــ سنبحث معًا لإيجاد الحلول التي ستساعدك على التخلص من كل هذا.
خرجت من عيادة الدكتورة لا أدرك ماذا تعني بالطريق، لا أفهم كيف يمكنها مساعدتي وأنا لا أقدر على مساعدة نفسي.. حتى أنني لا أعرف لماذا ذهبت إليها، هل لتسمعني؟ أم لتساعدني؟

جلست على أحد الكراسي التي قابلتني على الكورنيش، وأخرجت مفكرتي من حقيبتي، ثم وضعت السماعات في أذني، لأسمع بعض الموسيقى.

"أعلم أنني تغيرت لكنه الطبيعي، أعلم أنني لم أعد أنا نفس الشخص، ولا أعيش أيامي كما كنت أتمناها وكما كنت أحبها، لكن هذا طبيعي لقد مر عام على نظام معين لحياتي، وفجأة اختل هذا النظام بانتهاء الدراسة، أنا منهكة من تلك السنة اللعينة، أحتاج للراحة وأحتاج لمعرفة نفسي الجديدة، أحتاج أن أفهم ماحدث.. وأرى كل شئ بمنظور آخر".

يجب أن أجد طريقًا جديدًا، يجب أن أبحث عن طريق العودة وحدي دون مساعدة أحد؛ العودة لنفسي التي أحبها، فأنا أستطيع أن أقاوم"

ـ منة ، منة ، منة

هناك صوت يناديني.. أنا أسمعه.

ـ بدأت أتحرك من مكاني، و شعرت برأسي ثقيلة، حاولت أن أفتح عيناي ببطئ، أين أنا؟ ماذا كان يحدث؟ وجدتني على سريري في غرفتي، بجانبي أقلامي وكتبي.

ـ هيا حضري نفسك لنذهب للطبيبة التي طلبتيها.

ـ أمي.. لقد قررت، لن أذهب، سأتعافى وأسترد نفسي وحدي.