في بورسعيد عادات متأصّلة؛ تمشية البحر، وعزف السمسمية، وأكل البط في أوائل أيام شهر رمضان الكريم، نتوارثها أجيالًا تلو الآخرى. وفي هذه الأيام من كل عام، كانت تستعد الأسر بمختلف مستوياتها بالتحضير لهذه العادة، أن تتوسط "البطة" سفرة اليوم الأول، مهما كان ما بجانبها من أكلات أخرى.
لكن في ظل الارتفاع المستمر -والمبالغ به - في أسعار الدواجن خلال الأيام السابقة، وبعد تخطي الدولار حاجز الـ30 جنيهًا، أصبحت عادة شراء البط مهددة بالاختفاء، مما أزعج العديد من الأسر في مدينة بورسعيد، فالأمر لا يرتبط بمجرد عادة، بل بهجة تأتي مع الشهر الكريم، وبعدما كانت "البطة" توحد المدينة بغض النظر عن قدرتهم الاقتصادية، تحول الأمر إلى قادر وغير قادر، بل لجأ البعض إلى التقسيط، فالبطة الواحدة الآن تتراوح سعرها من 300 إلى 1500 جنيهًا حسب الحجم والأنواع.
"أنا جدة على سن المعاش، لدي ستة أولاد متزوجين و 15 حفيد، أتحصل شهريًا على ألفَان جنيهًا معاش زوجي، بما يعادل ثمن بطتان أو ثلاثة بعد الارتفاع الأخير، قررت قطع عادة شراء البط في رمضان الذي استمرت في منزلي إلى ما يقرب من 50 عامًا".
ذلك كان لسان حال السيدة السبعينية "فاطمة"، والتي تُكمل حديثها باستياء: ولدت في خمسينيات القرن الماضي حيث كانت أغلب العائلات في بورسعيد تقوم بتربية الفراخ والبط فوق أسطح العمارات السكنية، لم تكن هناك عائلة تحمل هم شراء البط في رمضان حتى أننا كنا نهادي به الجيران والأقارب، ومنذ أن تزوجت وأنا لم أقطع هذه العادة حتى أنني كنت أشارك في "جمعية نقدية" لكي أشتري البط بالمبلغ كله، ولكن هذا العام تحديدًا كانت ظروف المعيشة صعبة، لذلك بلغت عائلتي بأن مائدة عزومة أول يوم رمضان هتكون بدون البط.
وتضيف "فاطمة"، تربيت على أن أكون ضد الإستغلال، لذلك لم أحزن على قرار مقاطعة شراء البط في رمضان، فمن الغريب أن أنفق ما يقرب من 10 آلاف جنيهًا على عزومة طعام، وهناك العديد من الأسر لا يملكون رفاهية اختيار طعامهم، وليس البط فقط فأنا قاطعت شراء العديد من السلع مثل اللحوم والبيض والدواجن.
وتعود عادة عزومة "البط" في بورسعيد إلى التاريخ السكاني للمدينة، التي تكونت من قطاعين سكنيين وهما "الحي الإفرنجي"؛ سكنته الجاليات الأوروبية وتحديدًا الإيطاليين الذين تم استقدامهم للعمل في حفر قناة السويس منذ عام 1859، بينما "الحي العربي"، بالجزء الجنوبي سكنه المصريين، ونظرًا لاعتياد الأجانب على أكل الديك الرومي في أعيادهم المختلفة كان للبورسعيدية هوايتهم المشابهة بالتوازي وهي عادة شراء وذبح البط في رمضان، ومن وقتها أطلق البعض عليها "مذبحة البط".
لم تكن فاطمة الوحيدة التي قررت المقاطعة أو الاستغناء عن توسط البطة لعزومة اليوم الأول من رمضان، أسر أخرى قررت الأمر إما قبولًا بأمر واقع يجعل سعر البطة لا تتناسب مع دخلهم الشهري الحالي الذي انخفضت قيمته مع انخفاض سعر الجنيه المصري، وعدم ارتفاع الرواتب بنفس قيمة ارتفاع الأسعار، بينما لم تستطع أسر أخرى ذلك، بل ظهرت محاولات أخرى في محال الدواجن في بورسعيد تتحدث عن تقسيط سعر "البطة".
يقول وليد، (43 عامًا): تعودنا على عادة أكل البط منذ الصغر ولا يمكن أن أتخيل رمضان بدون أكل البط، لذلك لجأت إلى حل التقسيط، حيث قمت بشراء بطتان بسعر 1600 جنيهًا سوف أقوم بسدادهم من راتبي الشهري على مدار الثلاث شهور القادمة.
محمد بركات، (50 عامًا) صاحب محل الدواجن التي تبنت فكرة تقسيط "البط"، يقول جاءت لي فكرة التقسيط عندما أرسلت لي إبنتي الصغيرة منشور على موقع التواصل "فيس بوك" لشخص يسخر من غلاء أسعار البط ويقول محتاج قرض من البنك لكي أشتري بطة رمضان، لذلك قمت بالإعلان على أكثر من مجموعة خاصة بأهالي بورسعيد عن تقسيط جميع أنواع البط لفترة ثلاث شهور بفائدة 15% بصورة البطاقة والاستلام ليلة رمضان، تفاجأت بعدها بكم هائل من المكالمات والرسائل لحجز البط.
ويوضح "بركات"، أسعار البط تقريبًا زادت بنسبة أعلى من %50، حيث أن سعر الكيلو الحالي للبط المرجان 150 جنيهًا، بينما كان يبلغ سعره في رمضان الماضي 70 جنيهًا، وأيضًا البط المسكوفي سعره الحالي 110 جنيهًا، بينما كان يبلغ سعره في رمضان الماضي 55 جنيهًا فقط، لذلك كان يجب أن أخفف من أعباء المواطنين، في حين أن الإقبال على البط لم يتأثر كثيرًا عن السنوات السابقة لأن البورسعيدية ممكن يستلفوا الأموال لشراء البط.