بعد 6 سنوات من العمل، لا يمتلك محمد أي إثبات على أنه يعمل كمحصل للفواتير والعدادات في شركة المياه والصرف الصحي في أسوان، فوفقًا لعقد عمله "المؤقت" الذي وقعه مع الشركة في 2018، لا يحق له -وغيره من المحصلين – التمتع بأيًا من حقوق العمل التي تتوفر لذوي العقود الدائمة، مثل أن يسجل عمله في الشركة على "البطاقة الشخصية".
يفرض هذا الأمر حالة من القلق المستمر على محمد منذ بدء عمله مع الشركة؛ ليس فقط أثناء ساعات عمله التي ترتبط بتواجده في الشارع، مما قد ينتج عنها أي مشاجرة مع أصحاب عدادات المياه والمستفيدين من الخدمة بسبب أي خلاف حول الفواتير التي يحصّلها، بل يفرض القلق نفسه على حياته كلها، مهددًا أمانه الوظيفي واستقراره هو وأسرته.
وداخل مقر الشركة الواقعة في منطقة فريال بأسوان؛ يتناوب محمد – وهو اسم مستعار لأحد العمال الذي تحدث معهم "عين الأسواني" - مع ما يقارب 700 من محصلي الشركة ذوي العقود المؤقتة التناوب على اعتصام مستمر، بدأ في 19 مايو الماضي، للمطالبة بالتثبيت وتطبيق "اللائحة الشاملة" أسوة بمُحصلي الأفرع الأخرى بالشركة على مستوى الجمهورية، التي تقضي بالحصول على راتب ثابت، بالإضافة لمميزات الموظف العادي.
لا أشعر بالأمان
يعمل محصلي العدادات والفواتير في شركة المياه والشرب في أسوان بعقود "مؤقتة" بالوكالة لمدة 6 أشهر، يمنح الحق للشركة -وفقًا لبنود العقد - أن تجددها أو إنهائها في أي وقت دون حاجة إلى إنذار أو إعذار أو اتخاذ أية اجراءات قانونية أو قضائية، ودون أن يكون للمحصل الحق في الاعتراض أو المطالبة بأية تعويضات.
ناهيك عن أن العقد لا يتضمن إجازات أو راتب ثابت أو حوافز، فالدخل الشهري لكل محصل يعتمد على عمولته حسب نسبة تحصيله للفواتير، بشرط أن تزيد عن 65%، أما إذا نقصت عن ذلك فلا يحصل على عمولة، ويقتصر على 2000 جنيه بدل انتقالات.
يشعر محمد بالخوف في حالة فض الاعتصام وعودتهم للعمل دون تنفيذ مطالبهم، إذ لن تكون العواقب سليمة بحسب رأيه، مُضيفًا "قد نتعرض للتعنت أو تغيير مناطق عملنا إلى مناطق لا يوجد بها كثافة سكانية، فكل منطقة لها طبيعتها السكانية، وبعض المناطق تقل بها كثافة السكان مثل منطقة الصداقة، مما يصعب جمع نسبة تحصيل عالية فوق الـ 70%، وهو ما سيؤثر على العامل في الحصول على عمولة جيدة".
ويضيف: "لو كنت أعرف أنني سأظل على هذا الوضع، لكنت تركت العمل منذ سنوات، لكن بعد أن تخطيت سن الـ 43 لن أتمكن من الالتحاق بعمل في مكان آخر".
حاول محمد بالفعل التقدم في 2022 إلى مسابقة التوظيف التي أعلنت عنها الشركة لتعيين فنيين، وطلب هو وآخرون ممن يعملون مع الشركة بالعقود المؤقتة عَقد مسابقة داخلية بينهم، بما أن لهم سنوات في العمل بالفعل وينتظروا التثبيت، إلا أن الشركة اشترطت أن يكون السن حتى "35 سنة"، وهو ما وقف عائقًا أمام محمد وغيره ممن فوق هذا السن. يقول: "سيحقق لي العقد الثابت أسوة بباقي محصلي المحافظات الأمان لي ولأسرتي مستقبلًا".
يصف محصل آخر، تحدث مع "عين الأسواني"، موقف الشركة من رفض تحويل عقودهم إلى ثابتة وليس مؤقتة إلى أنه "تعنت وتضارب"، حيث أعلنت الشركة في الوقت نفسه تعيين 700 فني. يقول: "واجهنا أفراد من الإدارة الذين حضروا إلى الاعتصام في يومه الثاني بذلك، فتحججوا أن الشركة لا تملك ميزانية لأجور ثابتة، أما أجور الفنيين فقالوا إنها تُسدّدها منحة مالية من الشركة القابضة "الشركة الأم".
لم يقتنع المعتصمين بهذا الرد، كما لم يقتنعوا بمحاولات اللواء أشرف عطية محافظ أسوان، الذي توجه إليهم في الأربعاء 22 مايو الجاري، للتفاوض معهم بمقر اعتصامهم، وانتهى النقاش برفض المحصلين بنود التفاوض التي طرحها المحافظ، وقرروا استمرار الاعتصام، وبحسب حديث أحد العاملين "كان التفاوض فقط على زيادة نسبة بدل الانتقال إلى 3000 بدلًا من 2000، وتغيير نسبة العمولة دون تحرير عقود عمل شاملة للمحصلين".
خسائرك تتحملها وحدك
يوضح المعتصمين في حديثهم لـ "عين الأسواني"، أن الأمر ليس مجرد تغيير مسميات من مؤقت إلى شامل/دائم، وإنما "الشعور بالأمان"، وأنه حق للعامل طالما يؤدي عمله، ليس فقط للدخل الثابت، بل لحقوق أخرى مثل الرعاية في حال إصابة العمل.
فمع تكرار تعرض عدد منهم لإصابات خلال العمل، وعدم تكفل الشركة بمصروفات تلقي العلاج أو أية حقوق تتعلق بمستحقاته المالية، بدا للمحصلين أنهم مهددون طوال الوقت حال أي ضرر صحي يصيبهم حتى وإن كانت "إصابة عمل".
يحكي أحد المحصلين، طلب عدم ذكر اسمه، لـ"عين الأسواني"، عمّا تعرّض له من أزمة سابقة خلال عمله، يقول: "عانيت من مرض السكري، وخلال عملي أُصبت بحادث اصطدام مع توك توك، وأمر لي الطبيب براحة في المنزل خمسة عشر يومًا".
وأكمل بقوله إن زملائه قرروا العمل محلّه في هذه الفترة لتحصيل نسبة عالية حتى لا يتضرر مرتبه، مُحاولين الحصول على عمولة بجانب بدل الانتقال الثابت: “العمولة لا تكفي، وأنا أنفق على أسرتي ووالدي ووالدتي".
واطّلع "عين الأسواني" على نسخة مصورة من عقد العمل بالوكالة لمحصلي شركة مياه أسوان، وتأكد مما تحدث عنه العمال حول لائحة العمل أو حق انهاء العقد، بينما احتوت العقود الجديد، التي يحملون نسخ ضوئية منها، والخاصة بعدة فروع للشركة القابضة في قنا وسوهاج والشرقية، أحقية الطرف الثاني في صرف مكافأة تقييم الأداء وأي بدلات أخرى طبقًا للأجر الأساسي من متوسط المعمول به.
في العقود الجديدة للمحصلين في المحافظات الأخرى، يتقاضى المحصل وفقًا للبند الثاني عشر مقابل أداء العمل مرتب أساسي، طبقًا للدرجة الوظيفية على أن يتقاضى الحوافز والبدلات والأجور المتغير مقررة بلائحة نظام الشركة للعامين.
وعود لا تتحقق
ويتناوب المحصلون الحضور للاعتصام يوميًا، بينما يقيم البعض داخل مقر الشركة، يعلق أحدهم: "نفد صبرنا في محاولة الحصول على حقوقنا، خاصة بعد تحرير عقود شاملة لزملائنا في الأفرع الأخرى بنفس سنة التعيين".
واستطرد: "قبل عامين اتخذنا خطوات بالتواصل مع رئيس التحصيل ثم رئيس القطاع، وصولًا إلى رئيس مجلس الإدارة بالشركة، ولم تُثمر النقاشات سوى عن وعود بتحقيق مطالبنا، والانتظار حتى حلول السنة المالية أو العام الجديد".
ويقول محصل آخر إنه يعمل في الشركة كمحصل بالعمولة منذ عام 2017، وخلال تلك السنوات تلقى هو وزملائه وعودًا بالتثبيت دون تنفيذ، مُعلقًا "لو تحدثوا معنا بصراحة من أول مرة لكنت تركت العمل، لكن الآن تخطى سني 35 عام، فإلى أين سأذهب؟ حتى الآن لا أمتلك مرتبًا ثابتًا، وراتبي يصل بعد تحديد العمولة إلى 3 آلاف جنيه!، ، نحن نحتاج لبنود تحفظ حقوقنا في الحصول على تأمين خاص بالموظف، وليس تأمين جماعي للمحصلين".
ورغم محاولات عدة جهات التدخل لإقناع المحصلين فض الاعتصام، يتمسك محمد وباقي المعتصمين بمطالبهم مشيرين إلى أنهم قاموا بعدة وقفات منذ 2023، ولم يحدث أي تغيير في أوضاعهم، على عكس أقرانهم في فروع الشركة في المحافظات الأخرى.
ويشير عدد منهم، تحدثوا لـ"عين الأسواني" طلبوا عدم ذكر أسمائهم حفاظًا على سلامتهم، أن مجموعة من أفراد مكتب العمل وإدارة الشركة بأسوان حضروا إلى الاعتصام في يومه الثاني، وأسفر النقاش معهم، عن عدم إمكانية تنفيذ مطالب العمال، بزعم عدم وجود ميزانية بالشركة.
بينما ذكر أحد العمال، أن أحد زملائه المثبّتين بالشركة جاء إلى مقر الاعتصام، وأخبرهم أن شخصًا عرّف نفسه على أنه ضابط بوزارة الداخلية اتصل به هاتفيًا، وطلب مقابلة مجموعة من المعتصمين في محكمة أسوان بشارع كورنيش النيل، مُوضحًا "ذهبنا نحن وكنا أربعة من المعتصمين إلى المحكمة، دخلنا إلى غرفة في الطابق الأرضي في المدخل الرئيسي للمحكمة، قابلنا شخص بزي مدني عرّف نفسه بأنه ضابط مباحث، وكان بصحبته ثلاث ضباط بزي عسكري عرّفوا أنفسهم شفهيًا، طلبوا منا عدم الاعتصام في الشارع، والاعتصام داخل الشركة، وفي نهاية النقاش تم إخطارنا بأنه في حالة استمرار اعتصام أشخاص خارج الشركة، فقد يتم إلقاء القبض علينا".
واجتمع العاملون في يناير الماضي مع رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة، ممدوح رسلان، خلال زيارته إلى أسوان، لكنه أخبرهم بعزمهم على إلغاء العقود الشاملة للمحصلين في الأفرع الأخرى بالجمهورية في يونيو القادم ليتساوى جميع العاملين.
وتواصلت "عين الأسواني" مع محمد عبد العزيز، رئيس القطاع التجاري بشركة مياه الشرب بأسوان، هاتفيًا، للرد على موقف مطالب المحصلين ووضعهم الحالي، إلا أنه طلب تحديد موعد لاحق للحديث، وعاودنا الاتصال به، أكثر من مرة، وحاولنا أيضًا عبر تطبيق واتساب، لكنه لم يرد حتى تاريخ نشر التقرير.
وتتبع شركة مياه الشرب والصرف الصحي بأسوان، الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي، التي أُنشئت وفقًا للقرار الجمهورى رقم 135 لسنة 2004 لتكون شخصية اعتبارية، وتخضع لأحكام القانون رقم 203 لسنة 1991 ولائحته التنفيذية.
ووفقًا لصحيفة البورصة في فبراير 2024، قال المهندس ممدوح رسلان، رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة، إنه جرى اعتماد الموازنة التقديرية للشركة وشركاتها التابعة للعام المالي 2023-2024 بإجمالى 39.31 مليار جنيه.
حائط سد
وبينما يتمسك محمد وزملاؤه بالاعتصام لحين تحقق مطالبهم، فوجئوا صباح الثلاثاء 28 مايو الجاري، بإعلان منشور على الصفحة الرسمية لشركة مياه الشرب والصرف الصحي بأسوان عن حاجتها لوكلاء تحصيل.
وكأن مخاوف محمد التي عبر عنها من قبل تتحقق، ينبئه شعوره أن الإعلان -الذي اوضحت الشركة فيه أن استقبال راغبي التقدم للوظيفة يكون في مركز خدمة عملاء الشركة وهو نفس مكان اعتصام المحصلين الحاليين - محاولة من الشركة للضغط على المحصلين فض اعتصامهم والاستمرار بنفس شروط العمل أو “الاستبدال”.