رحلة طويلة مليئة بالتحديات يسلُكها سمك "حسين عبد الواحد"، أحد صيادي بحيرة ناصر جنوب محافظة أسوان، بداية من نقله إلى بائعي السمك القطاعي داخل المحافظة، ومُرورًا بنقاط توزيعه في مدن الصعيد؛ إسنا وأسيوط وبني سويف، إلى أن تصل في النهاية إلى أيدي باعة سوق العبور في القاهرة.
وطوال تلك الرحلة المٌضنية؛ على حسين أن يتحمل مسؤولية الحفاظ على سمكه طازجًا حتى يلقَى إعجاب التاجر الوسيط كي يشتريه منه، وهي عملية ارتفعت تكلفتها كثيرًا وفقًا لحسين وغيره من الصيادين، تجعله في بعض الأحيان دون ربح.
يمثل حسين وصيادو بحيرة ناصر على أطراف أولى عملية الانتاج السمكي في مصر، التي تواجه مؤخرًا هجوم بسبب ارتفاع أسعار بيع الأسماك في الأسواق.
يشكو المواطنين من أن ارتفاع الأسعار مبالغ فيه، ويتهمون كل من يشارك في العملية أحيانًا بـ "الجشع"، ورفع نسب أرباحهم، ووصل الأمر إلى انطلاق حملات منظمة لمقاطعة شراء الأسماك، غير اضطرار الكثير من المواطنين إلى عدم الشراء لعدم القدرة المادية من الأساس.
على الناحية الآخرى، يقف حسين وصيادون آخرون من البحيرة، يروون لـ "عين الأسواني"، جوانب أخرى غير مروية يعانوا هم أيضًا منها، يتحدثوا فيها عن تحديات تضطرهم إلى رفع سعر بيع أسماكهم، مثل صعوبات النقل وضعف التطوير، والتلوث البيئي في البحيرة، وضعف التنوع السمكي، وعدم توافر المعدات اللازمة لعملية الصيد.
النقل.. عملية شاقة
على بعد 166 كم جنوب مدينة أسوان، تمتد بحيرة ناصر، وهي إحدى أكبر البحيرات الصناعية بمساحة 1.25 مليون فدان، وتساهم بنسبة 9.30% من الإنتاج السمكي لإجمالي البحيرات داخل مصر، وفقًا لمجلة البحوث والدراسات الأفريقية ودول حوض النيل الصادرة الصادرة عن جامعة أسوان في يناير 2022.
وتضم البحيرة أكثر من 50 نوعًا من الأسماك، وفقًا للموقع الرسمي لهيئة الثروة السمكية، مثل أسماك البلطي النيلي والبلطي الجاليلي والساموس، والبياض والرابه والشال والليبس والقرقار الأبيض والأسود.
في حديثه لـ"عين الأسواني" يقول حسين أن عملية الصيد في البحيرة شاقة ومكلفة، فهو يضطر أن يبقى من 5 إلى 6 أيام فى الرحلة الواحدة للصيد، حتى يجمع الكمية التي يحتاجها من السمك وهي في حدود طن تقريبًا.
وكي ينتقل حسين وباقي الصيادين بحمولتهم من بحيرة ناصر وإلى أحد الموانئ المُخصصة لاستقبال الانتاج السمكي الخاص بالبحيرة، مثل ميناء "جرف حسين" الواقع في جنوب مدينة أسوان بنحو 140كم، وهو أقربهم للبحيرة عن باقي الموانئ مثل ميناء توشكى وأبو سمبل والسد العالي، يسلك الصيادين طرقًا جبلية "غير ممهدة" لذا ليس من السهل أن يقوموا بالنقل اليومي عليها فضلًا عن تطلب النقل عبرها تكلفة مرتفعة، فيفضّلوا أن تقضوا في رحلة الخروج للصيد عدة أيام كي يكون النقل مرة واحدة، عن أن يتنقلوا عبر هذه الطرق -مرتفعة التكلفة- يوميًا.
وخلال هذه الفترة التي تصل لأيام، يتحمل الصياد مسؤولية حفظ الأسماك، فيحتاج حسين إلى 100 لوح من الثلج، الذي سجّل سعره ارتفاعًا للضعف تقريبًا، فوصل إلى نحو 12 جنيهًا، بعدما كان يحصل على اللوح الواحد بـ7 جنيهات.
ولا يقتصر ارتفاع التكلفة على ألواح الثلج، فالتصاريح المطلوبة لنقل الصيد من الميناء الذي يتولى مسؤوليته عدة جهات تتبع جهاز حماية البحيرات والثروة السمكية ووزارة الزراعة، واستصلاح الأراضى والجمعية التعاونية لصائدي الأسماك، ارتفعت منذ ثلاث سنوات من 30 قرش للكيلو الواحد إلى 50 قرشًا، بمعدل 550 إلى 700 جنيه في النقلة الواحدة.
وبحساب مصروفات احتياجات رحلة الصيد من طعام العاملين على المركب والوقود والأدوات المستخدمة في الصيد من شبكات الغزل والملابس، تبلغ التكلفة الإجمالية لمركب حسين إلى 14 ألف جنيه تقريبًا، والتي كانت لا تتخطى 9 آلاف جنيه في العام الماضي.
لتغطية هذه الزيادة، رفع حسين وغيره من صيادي البحيرة سعر بيع كيلو البلطي مثلًا من 25 جنيه إلى 45 جنيه للكيلو الواحد، وذلك حتى يتحمل ارتفاع التكلفة السابقة التي تحدث عنها، وانخفاض انتاج الأسماك في البحيرة الذي يمتد في السنتين الأخيرتين.
بسبب هذه العملية الشاقة والمكلفة حتى الوصول إلى الميناء، يتوقف حسين وأغلب صيادي البحيرة عند هذه النقطة، ويبيعوا انتاجهم للتجار، ومن ثمّ إلى "الباعة السريحة"، سواء للبيع داخل أسوان أو خارجها.
ويرى حسين أن تمهيد الطرق سيقلل الوقت والتكلفة، يقول: "الطرق الجبلية الصعبة تُجبرنا على تخزين كمية كبيرة من السمك، وشراء ألواح ثلج عديدة لحفظها والتي زادت تكلفتها مثل باقي مستلزمات العمل".
ويضيف: “سعر شراء المركب الكبير يصل إلى 100 ألف جنيه، و50 ألف جنيه للمركب الصغيرة، إلى جانب أسعار غزل الصيد التي بلغت نحو ألف جنيه، فإذا مُهّدت الطرق سنتمكن من إرسال الأسماك بشكل يومي بعد الصيد إلى التجار في أسوان".
انخفاض الانتاج السمكي في البحيرة
ووفقًا لآخر بيانات الإنتاج السمكي، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2022، سجل إنتاج البحيرة من إنتاج الأسماك ارتفاع ثم استقرار على الزيادة بين عامي 2016 و2020. وخلال خمس سنوات سجّلت بحيرة ناصر إنتاج الأسماك 18352 ألف طن في عام 2016، وارتفع في 2017 إلى 19751 ألف طن، وقفز إلى 28206 ألف طن في عام 2018، بعدها عاود الإنتاج الانخفاض في 2019 إلى 25470 ألف طن، واستقر الإنتاج مُحققًا 25728 ألف طن عام 2020.
وبحسب حسين؛ شهد إنتاج البحيرة السمكي انخفاضًا خلال آخر ثلاث سنوات، مُرورًا بمراحل عديدة بين الاضطراب والاستقرار في الإنتاج، يُدلل على ذلك بإنتاج مراكبه العشرة نحو 90 كيلو سمك، بينما في سنوات سابقة كانت نفس الكمية تُنتَج من ثلاثة مراكب فقط، مُضيفًا: "المركب الواحد تنتج حاليًا 45 طن من الأسماك، وهي نصف الكمية قبل خمس سنوات".
ومن خلال البيانات الرسمية الخاصة بإنتاج البحيرة، لم نجد بيانات رسمية للسنوات الثلاث الأخيرة لإنتاج البحيرة، إلا أن أيمن أحمد أحد صيادي البحيرة أكّد حديث حسين.
يقطن أيمن، أحد الصيادين، في عشش من القش بجانب البحيرة، نظرًا لإقامته شبه الدائمة خلال عمله مع مجموعة من الصيادين، ويتخصص في صيد السمك البلطي والشبارة والساموس بنحو 80 كيلو.
ويشير إلى أن الارتفاع المستمر سعر غزل الصيد إلى ألف جنيه بات عائقًا أمام الصيادين، الذين يحتاجوا إلى تجديدها وتغييرها، بعدما تُتلف خلال فترة العمل التي تستغرق نحو ثلاثة أشهر تقريبًا، وتصل تكلفة تغيير عدة العمل 4 آلاف جنيه شهريًا، بجانب تكلفة النقل المرتفعة.
وكان معدل الصيد اليومي لأيمن 100 كيلو من السمك، أما الآن أصبح معدله اليومي 30 كيلو، إذ يأخذ كل خميس السمك، ويضعه في 100 لوح ثلج، ثم ينقله إلى ميناء جرف حسين الأقرب له، ومنها إلى المحافظات.
نقيب الصيادين: السوق عشوائي
ويرى إسماعيل حجاجي، نقيب الصيادين بأسوان، أن مجال سوق الأسماك يعاني من العشوائية وعدم الانضباط، وأن أسعار البيع تغطي بالكاد سعر تكلفة الصيد في البحيرة بسبب الارتفاع في تكلفة مدخلات الإنتاج من شباك الصيد والبنزين وانخفاض الانتاج السمكي، مشيرًا إلى أن زيادة سعر البيع من الصياد حتى يحقق هامش الربح ويعوض الخسارة، إلا أن ارتفاع السعر بعد ذلك يكون من تجار بيع السمك.
ويعلق حجاجي على أن مقاطعة شراء الأسماك تضر الصياد بالدرجة الأولى الذي يعمل في بيئة صعبة ولا يستطيع أن يحتفظ بانتاجه فإذا تراكم عنده يضطر أن يخفض سعره لدى التاجر.
وبحسب حجاجي فارتفاع السعر منذ شهر مارس يرتبط بتزامن وقف الصيد بالبحيرة، لذا يكون الاعتماد أكثر على السمك المُخزّن أو أسماك المزارع السمكية التي تُباع بسعر أعلى، بسبب تكلفة النقل من وجه بحري إلى أسوان.
وقد وفرت النقابة قبل عامين ملابس عمل لصيادي البحيرة وشباك غزل جديدة، لكن وفقًا لحسين لم تتكرر.
وربما يجد هؤلاء الصيادون أملًا في مشروع "مسار" الذي أطلقته جامعة أسوان؛ لتعزيز الاستفادة من ثروة بحيرة ناصر السمكية، وتطويرها وتسويق منتجاتها في السوق المحلي والعالمي.
ويستهدف المشروع تهيئة قطاع الأسماك بأسوان ليصبح أحد المنافسين في الأسواق العالمية من خلال الورشة التي يقدمها للصيادين، وفقًا للدكتورة سمر مسلم، استشاري ريادة الأعمال في المشروع، عبر بيان لها.
إذ يعمل التدريب على كيفية إيجاد حلول للمشكلات عبر الابتكار والوعي وخلق الأفكار والفرص، وتحويلها لعمل مربح ومستدام.