في 2019 تطوعت يمنى حسن، الطالبة بكلية الحقوق جامعة أسوان، مع مبادرة "ضد البلاستيك" بمجرد انطلاقها بهدف توعية المواطنين عن مخاطر إلقاء المخلّفات في مياه النيل.
لم تكن يمنى تعلم قبل هذه الخطوة مدى خطورة البلاستيك على البيئة وأضرارها على حياة الطيور والأسماك، إلا أن شغفها دفعها إلى خوض التجربة بحماس مع المبادرة التي تنظم جولات ميدانية تطوعية في محاولة منها لتنظيف النيل من هذه المخلفات والشوائب.
"هذه المخلفات التي لا تأخذ منّا دقائق لالقاؤها في النيل تستغرق سنوات طويلة للتحلل في التربة الزراعية وتؤثر سلبًا على جودة خصوبتها، ناهيك عن التكلفة المرتفعة لإعادة تدويرها"، تعلّق يمنى، التي اكتشفت أن مناهضة هذه الممارسات المتعمد منها استسهالًا أو غير المتعمد نتيجة انخفاض الوعي بأضرارها مسؤولية يجب أن يحملها الجميع أفرادًا ومؤسسات.
على المستوى الشخصي، قررت يمنى تقليل استخدامها لأية مواد بلاستيكية قدر المستطاع واستبدالها بكل ما هو صديق للبيئة، ولكن تبدو الأزمة في أسوان أكبر من ذلك. تقول يمنى أن أغلب المخلفات التي ترصدها المبادرة تأتي بالأساس من المراكب النيلية المتمركزة في النيل أو المارة به، تقول: " نعم التخلص من المخلفات في النيل سلوك سيء عند الناس ولكن الكمية الأكبر في النيل تكون من المراكب".
وتنظم القوانين المصرية ما يتعلق بإدارة المخلفات وعقوبة المخالفين من خلال قانون رقم 202 لسنة 2020، بل إن للحفاظ على النيل كأحد المجاري المائية قانون خاص رقم 48 لسنة 1982، والذي يأتي تفصيلاته في تعديلات لائحته التنفيذية التي صدرت عام 2009.
يقول الدكتور ممدوح السيد، رئيس الفرع الإقليمي لجهاز شؤون البيئة بجنوب الصعيد، إن مصادر مخلفات النيل متعددة، ومعظمها ينتج عن الأنشطة البشرية. ويعلق قائلًا: "يعاقب القانون المصري كل من يلوث مياه النيل، سواء كان الأفراد الذين يلقون المخلّفات أمام المراسي النيلية أو المؤسسات مثل البواخر النيلية التي تلوّث المياه، فتندرج العقوبة من الغرامة إلى التحويل للمحاكمة والحبس، وخلال مراقبتنا لـ 63 باخرة نيلية، رصدنا 17 باخرة مخالفة تتخلص من مخلفاتها بطرق غير قانونية"
ويضيف:"للأسف المخلفات التي يلقيها الأفراد في النيل لا نستطيع الحكم عليها في حال عدم رصد فعل التلوث في وقته، أو بدون وجود تصوير واضح للفعل وتوثيقه، فالمواطن مش هيتحاكم للأسف ومنه لربنا".
يشير السيد إلى أنه بالرغم من الحملات التي يطلقها جهاز شؤون البيئة للتوعية بخطورة تلوث مياه النيل، إلا أن الكثيرين مازال ينقصهم الوعي، موضحًا أن من يلوث المياه يضر نفسه أولًا قبل أي شخص آخر.
وفقًا للتقرير الذي قدمته مصر عام 2018 في إطار اتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ، تنتج الانبعاثات الكربونية في مصر من أربع قطاعات رئيسية، يستحوذ قطاع المخلفات على نسبة 10.8% منهم، والذي يتضمن المخلفات الصلبة ومعالجة مياه الصرف المنزلي والصناعي، مما يجعله من أكثر القطاعات المؤثرة سلبًا على جودة الحياة.
ويعد مقطع الفيديو الذي تصدر مواقع التواصل الاجتماعي، ديسمبر الماضي، واحدًا من أبرز الأمثلة على تلوث مياه النيل، فهو يُظهر باخرة سياحية تلقي بمخلفاتها في مياه نهر النيل قبالة مركز إدفو بمحافظة أسوان.
وقد نتج عن نشر هذا الفيديو إحالة الباخرة للنيابة بتهمة تلويث مياه النيل، وهي المخالفة التي أقر فيها القانون في المادة رقم 48 لسنة 1982، بمحاسبة كل من يلوث مياه النيل بغرامة لا تقل عن 20 ألف جنيهًا، ولا تزيد عن 200 ألف جنيهًا، مع إجازة وقف ترخيص الباخرة لمدة لا تزيد عن ستة أشهر، أو إلغاء الترخيص من الأساس.
وقد أدى تلوث ضفاف النيل في منطقة السد وخزان أسوان وبحيرة ناصر فقط إلى تهديد الطيور البرية التي تعتاد التجمع هناك في هجراتها أو تمركزها الأساسي في هذه المنطقة، يقول عمرو عبد الهادي، الباحث البيئي، لعين الأسواني، أن هذه المنطقة وحدها تجمع 200 نوًعا من الطيور البرية التي باتت الآن مهددة بسبب تزايد معدل المخلفات وعدم قدرة الإجراءات التنفيذية على التصدي لها، ضارًبا المثل باختفاء طائر الزقزاق المصري في فترة التسعينات لتدهور البيئة الرملية التي كان.يعيش فيها.
بينما يقول عمرو الطيري، الباحث في جهاز شؤون البيئة بأسوان: "نحصل على عينات دورية من مياه نهر النيل لرصد مدى جودتها، ثم نحصل على عينات منها وقت تشغيل البواخر والمصانع، ونقارن بينهما لنحدد إذا ما كانت لوثّت هذه البواخر مياه النيل خلال وقت التشغيل أم لا".
يوضح الطيري طريقة تخلص البواخر من مخلفاتها قائلًا: "تتعاقد البواخر السياحية مع شركات النظافة لإزالة القمامة ثم تتخلص منها الوحدة المحلية بعد ذلك، ونفتش البواخر دوريًا لمعرفة مدى التزامها، فنتفقد وحدات المعالجة ونرى إذا ما كان تم إلقاء المخلفات في خط طرد الشبكة الرئيسية أم لا، مع ملاحظة إجراءات الصيانة والسلامة الصحية وكيفية تخلص الباخرة من زيوتها".
ووفقًا لتزايد أعداد المخالفات التي يرصدها الجهاز خلال الموسم السياحي الشتوي الحالي، لا تلتزم بعض البواخر بالقواعد الصحية المتبعة، يحكي أنه خلال إحدى الجولات التي نظمها الجهاز لجمع القمامة من مياه النيل، لم يستطع المشاركون وضع أقدامهم على الأرض من كثرة القمامة، حتى أنهم يصادفون في بعض الأوقات المواطنين وهم يلقون القمامة فوقهم قائلًا: "المشكلة الكبرى هي نقص الوعي، فعندما ننصح المواطنين بعدم إلقاء القمامة في النيل، يردون علينا ردًا غير لائق".
منتصر جرفي، الباحث في التراث النوبي، يصف حدوث هذا التلوث في أسوان تحديدًا ب "الغريب"، فالعلاقة بين النيل وأهل أسوان طوال الوقت كان يغلب عليها "التقديس"، لدرجة أنه كان يتوضأ منه مباشرة، ويستلهم منه تراثه، وهذا يظهر في ألعابهم وموسيقاهم ورقصهم. يضيف: "لم يكن حتى يبصق فيه، وأعتقد أن هذا التغير حدث بسبب موجات التهجير التي أبعدت النوبيين عن بيئتهم إلى الصحراء لفترات طويلة".