في السادسة صباحًا؛ تستيقظ إيريني يوسف. وعلى عجلٍ توقظ أخيها إفرايم بينما ترتدي قميص لاعبها البرازيلي المفضل "نيمار"، ليستعد كلاهما للذهاب إلى تمرينهما المبكر.
صحيح أن الوقت ضيق أمامها قبل وصول الباص، لكنها تحرص أن تبدو في كامل هندامها قبل مغادرة البيت إلى أرض الملعب.
وقبل أربعة أعوام؛ عانت إيريني -التي تبلغ الآن 12 عامًا – من صعوبة التكيف داخل أرض الملعب بين أقرانها من الذكور، الذين كانوا يستخفون ببنت تزاحم 30 ولدًا اللعب بالكرة.
وبدأت ابنة مركز "مدينة أسوان" تتعلق بكرة القدم، تأثرًا بأبيها الشغوف باللعبة، منذ مجاورته أمام التلفزيون في المباريات المهمة فقط، وقضاء نهارها في مراوغة كرتها البلاستيكية بين أثاث صالة منزلها، حتى قرر أبيها البحث لها عن ناد لتتعلم فيه أصول اللعبة ومهاراتها المختلفة.
لم تكن المهمة سهلة على الإطلاق، غير أن أبيها اهتدى أخيرًا إلى مدرسة في مركز أبو الريش، تبعد مسافة نصف ساعة بالسيارة عن بيتهم، تنظم أكاديمية لكرة القدم، لتلتحق بها إيريني وتكون هي الفتاة الوحيدة بين أطفال كثيرين كلهم من الذكور.
تعاني إيريني الوحدة في أوقات الاستراحة بين التدريبات، وتتمنى لو تقاسمها فيها بنت آخرى، غير أنها حين تتذكر أن الوقت المخصص للراحة لا يتسع إلا لالتقاط الأنفاس وشرب المياه، تصبّر نفسها وتقول لـ"عين الأسواني": "حلاوة كرة القدم إنها لعبة جماعية
ولا تجد الراغبات في ممارسة القدم في مصر فرصًا كبيرة لتعلمها، فعلى عكس الاهتمام بإدراج الذكور في اللعبة عبر برامج قومية وأهلية مثل "دوري بيبسي للمدارس" الذي أفرز لاعبين مثل محمد صلاح والنني، أو "كابيتانو مصر" المتاح حاليًا للذكور، فإن الفتيات لا يجدن حتى برامج خاصة لإدراجهن في اللعبة.
تحاول إيريني أن تغطي هذه الوحدة بما تقضيه مع أخيها إفرايم وقت انتظار وصول حافلة التمرين في مشاهدة بعض أهداف المباريات الأخيرة لتعلم الفنيات، في انتظار تحقيق حلمها بالاحتراف.
وتدفع الأسرة 200 جنيه شهريًا مقابل التحاقها بأكاديمية "نوتردام".
في الأيام الأولى للتدريب واجهت إيريني مشكلة عدم اقتناع البعض من زملائها بقدرتها على ممارسة كرة القدم أو عدم الإنصات لنصائحها، لكن بعد فترة قصيرة اندمج الفريق سريعًا دون الشعور بأي اختلاف.
ربما لا تشاركهم اليوم روتينهم الصباحي في "التسخين" قبل بدء التمرين بمباراة أونلاين يديرونها عبر هواتفهم، لكنها صارت تحمل تقديرهم جميعًا بعد ما بذلته من جهد وجدية لإثبات مهاراتها.
يقول محمد عبد الله، مدرب إيريني في الأكاديمية، الذي سبق له تدريب العديد من الفتيات، إن حلم اللاعبات في احتراف كرة القدم، خاصة في صعيد مصر، غالبًا ما ينتهي سريعًا إما بالعزوف عن استكمال مشوارهن، أو الاضطرار للانتقال إلى "وجه بحري" والانضمام إلى فرقه التي تشارك في الدوري الممتاز، الذي يغيب عنه التمثيل الصعيدي منذ سنوات طويلة.
وتشارك فرق الكرة النسائية في الدوري المصري، من خلال تصفيات على مستوى قطاعات الجمهورية أولًا، قبل وصول عشرة فرق فقط للتصفية النهائية، الأمر الذي لا يضمن تمثيل عادل لبنات تلك القطاعات داخل المسابقة النهائية.
ويعترف "عبد الله" بأن مشكلة الدعم المادي وقلة الإمكانيات تعيق حلم إنشاء فرق كرة قدم نسائية في أسوان، فحتى إن نجحوا في تكوين فريق من الفتيات، فإنهم يعانون لتدبير نفقات الملابس والانتقالات والإقامة للمشاركة في الدوري الذي يضم محافظات أخرى للعب معهم مثل سوهاج والبحر الأحمر وقنا، مشيرًا إلى أن أبرز ما يعرقل تطور اللعبة في مصر، هو غياب كلًا من الدعم المادي والإعلامي، اللذان أديا إلى إهمال الأندية الجماهيرية لإنشاء فرق للكرة النسائية بها.
وانتقدت دينا الرفاعي، عضو الاتحاد المصري لكرة القدم ، في تصريحات صحفية سابقة، ما وصفته بـ"قصور في الثقافة" يؤدي إلىو إحجام الرعاة عن دعم اللعبة، قائلة "لازم دعم للكرة النسائية لأن عندنا شعبية زي الأولاد، ويوجد دوري للكرة النسائية بأقسامه الثلاث".
وتحلم إيريني بعصر تنال فيه الفتيات حظهن من الترشح للأندية، وأن يكون لهن مشروع لاكتشاف المواهب مثل الأولاد. ولعل القدر استمع إلى حلمها، حين وجدت وعائلتها، فرصة ضمن مشروع "ألف بنت ألف حلم" الذي تنظمه وزارة الشباب والرياضة لتعليم كرة القدم للفتيات، وتتدرب حاليًا مع نادي "التحرير"، تحت قيادة المدرب هيثم الشاذلي، ويعد الفريق هو الوحيد على مستوى أندية مركز مدينة أسوان وضمن 4 فرق في مراكز المحافظة الذي يشارك بالمشروع
ومؤخرًا، جعل الاتحاد الإفريقي لكرة القدم امتلاك النادي فرقة للكرة النسائية شرطًا أساسياً للمشاركة في دوري أبطال أفريقيا للرجال، وذلك بهدف تطوير المشهد الكروي النسائي في مصر، الأمر الذي من شأنه أن يزيل بعض الضبابية عن مستقبل إيريني وقريناتها اللائي يمارسن اللعبة داخل مدارس الكرة.
وعلى الرغم من أن الكرة النسائية بدأت في مصر عام 1989، فإنها تعاني مشكلات عديدة تحد من قدرة النساء على ممارستها.
ويكشف استبيان أجراه الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا"، في عام 2023، أن هناك 400 لاعبة كرة قدم مصرية فقط، من أصل مليون و752 لاعبة مسجلة لدى الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، بنسبة 0.022%، وهي نسبة ضئيلة للغاية.
لكن تلك المشكلة رغم فداحتها، تبدو أبسط ما يمكن أن تواجهه الفتاة الصغيرة في رحلتها نحو احتراف اللعبة، التي تحلم بأن تمثل منتخب مصر فيها يوما ما.
بعد بعض الفقرات التي تهتم بصقل مهارات اللاعبين، ينظم المدرب تقسيمة من فريقين، وبعد صافرة البداية تركض إيريني بالكرة وحدها في الملعب، فيما قد يسميه لاعبي الكرة "أنانية"، لكنها تقتدي في ذلك بمعشوقها نيمار البرازيلي التي تحرص خلال التدريب على ارتداء قميصه القديم في باريس سان جيرمان الذي يحمل رقم 10، الذي تشير إليه كلما أحرزت في الشبكة هدفًا.
وحتى الآن شاركت إيريني في مباراتين بقميص التحرير ضد فريقين من بورسعيد والمنصورة، وتنتظرها مباريات أخرى، ربما كثيرة جدًا، قبل أن تدرك حلمها بارتداء قميص المنتخب القومي، لذلك ما تزال تستيقظ يومي الأحد والثلاثاء في السادسة صباحًا لتذهب إلى أكاديمية الكرة من أجل مزيد من اكتساب المهارات، وتركض كثيرًا لعلها تدرك ما تصبو إليه من خلال فريق "التحرير".