"ربما جاء يوم نجلس فيه معًا لا لكى نتفاخر ونتباهى ولكن لكى نتذكر وندرس ونعلم أولادنا وأحفادنا جيلا بعد جيل، قصة الكفاح ومشاقه ومرارة الهزيمة وآلامها وحلاوة النصر وآماله، وكيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة فى فترة حالكة ليحملوا مشاعل النور وليضيئوا الطريق حتى نستطيع أن نعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء"، بهذه الكلمات تحدث الرئيس الراحل محمد أنور السادات في خطاب النصر في 16 أكتوبر 1973 أمام مجلس الشعب وقتها.
تابع أحمد العراقي الخطاب على شاشات التليفزيون، لكنه لم يتلقاه مثل بقية الشعب، فهو أحد الذين شاهدوا وعايشوا هذه الويلات بأنفسهم.
وفي الوقت الذي نتذكر فيه سنويًا الحرب ونحتفي بنصر الجيش وقواته فيها، لا يزال بيننا الكثيرون ممن لم تظهر قصة مشاركتهم على الملأ بعد.
العراقي من ضمن هؤلاء، تطوع أحمد محمد أحمد العراقي في الجيش المصري عام 1971 فور انتهائه من المرحلة الدراسية الإعدادية وهو ابن التاسعة عشر من عمره، وبعد عامين لم يتوقع حدوث حرب في تلك الفترة حتى قبل 24 ساعة من بدايتها.
يقول: “يوم الخامس من أكتوبر تحركنا في الساعة الثالثة عصرًا، ووصلنا في الواحدة بعد منتصف ليل اليوم التالي من مكان معسكراتنا في منطقة مساكن الهجانة الكيلو 4.5 إلى منطقة السويس، وكانت الهجانة منطقة عسكرية وهي الآن سكنية".
ويواصل حديثه: “أخبرونا عندما كنا متوجهين إلى منطقة السويس بذهابنا إلى تدريب، ولم نكن نعلم أنها الحرب، باعتبارها أسرار لا يعلمها سوى الضباط الكبار داخل الجيش، وبعد ساعات سمعنا دويّ انفجارات في الساعة الواحدة والنصف منتصف الليل، وبعدها جاء القائد ليخبرنا أنها الحرب بيننا وبين إسرائيل، وأعطانا نصائح، وقال علينا أن نقف في مكان نحتمي به إذا رأينا الطائرات الإسرائيلية".
في هذا الوقت، كان قد وصل عم أحمد إلى رُتبة مساعد في سلاح اللواء 64 مدفعية الكتيبة 46، ثم تولى مهمة المطبخ داخل الجيش وإعداد الطعام للضباط والجنود.
يتحدث عن ساعات ما قبل موعد الحرب: “جهزنا قبل طلوعنا مقطورة بها ثلاث عيون، ومهمة إعداد الطعام كانت صعبة قليلًا لأننا كنا نعمل في الظلام الحالك لوجود تعليمات بعدم إشعال أي نار حتى لا يرصدنا العدو، وكان الجنود يتناولون وجبة السحور، فيما كنت أقف في المقطورة أقوم بإعداد الفول للجنود، واستعين باثنين من العساكر لتوزيع السحور عليهم".
ولم تقتصر مهمة العراقي على المطبخ، بل تولى تعيينات الجنود وتوزيعهم على الوحدات.
ويضيف بابتسامة على وجهه: "كانت أيام جميلة، وبحمد ربنا إني شوفتها؛ لأن فرحة الانتصار حلوة، وبرغم كل صعوبات الشعور بالموت داخل الحرب أكثر من ألف مرة إلا أنني كنت أحب وطني، وأريد الانتصار له، وعندما تطوعت في الجيش كنت متحمس جدًا للوصول إلى مكانة جيدة، ووصلت لرتبة مساعد وهي بمثابة شهادة دبلوم كأنني أنهيت دراستي الثانوية".
وكان عم أحمد في خدمته يبدل الأماكن مع زملائه، ثم رأى نورًا فنطق الشهادة، لكن حين أبصر المشهد، وجد أن صواريخ مصرية تهاجم العدو.
ويبكي "العراقي" كلما تذكر قصص وذكريات استشهاد أصدقائه، مضيفًا: “عندما كنا في إحدى الوحدات عرفنا أنها رُصدت من العدو فأخذنا معداتنا وتركنا المكان وتركنا "فنطاس جاز" ومعه زميلي يحرسه لنرجع له مرة أخرى، وعندما عدنا له كان العدو قد دمرها تمامًا ولم أجد زميلي"، يقول بحزن في عينيه.
وحين علمت أمه أنه بالسويس يحارب، رددت قولها: “أريد رؤية ابني ولو كان بلا ذراع".. كانت هي وعائلته لا يتوقعون نجاته من الحرب، وحين عاد بعد النصر أقامت الأسرة الأفراح، ووزعوا الطعام، يقول: “كنت قد عقدت قراني على زوجتي.. وحين عدت تزوجنا".
وتأثرت أذن عم أحمد بسبب أصوات الانفجارات إذ لا يستطيع أن يسمع بها، يقول: “أذني يضعف بها السمع كلما تقدمت في العمر، وبعد انتهاء الحرب أجريت عمليتين لاستعادة السمع، ولم تنجحا للأسف، وخرجت من الجيش بعد 15 عامًا من الخدمة، وأحمد الله أنني لم أصب بشئ آخر"بعد ذلك عمِل عم أحمد في بيع أنابيب البوتاجاز، على الرغم أن الطبيب حذره من حمل الأثقال أو الغضب حتى لا يؤثر ذلك على سمعه، وحين وصل إلى سن الخمسين فقد سمعه كاملًا، واضطر إلى تركيب سماعات، وعند الستين حصل على معاش متضرري الحروب من القوات المسلحة".
لا تعين السماعات عم أحمد كثيرًا، لدرجة أني كنت أكتب له الأسئلة أثناء لقائي معه. يقابل هذا بابتسامة وترديد "الحمد لله" طوال الوقت. لكنه يؤكد أنه لم يفقد بعد أصوات زملائه.