على مدار عدة أيام؛ ظلت هاجر كباشي تدعو أن تظل بناتها الخمس آمنين، ألّا يقع صاروخ طائش على منزلهم في ظل الاشتباكات المتبادلة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
"لا أعلم من أين كنت أحشد طاقتي لتهدئتهن؟ لكني في الوقت ذاته كنت أسأل نفسي: إلى متى سنظل صامدين هنا؟"، تقول هاجر، ذات 34 عامًا.
لم تستغرق وقتًا طويلًا لتستقر على إجابتها، "سنرحل من هنا". قرار أعقبه السير في مسار مليء بالأسى كما تصفه هاجر، بداية من اضطرارها أن تشهد هي وبناتها جثث ضحايا الاشتباكات طوال الطريق الذي اتخذته فرارًا من منطقتها غير الآمنة.
ركضت هاجر وبناتها وسط آثار صواريخ متناثرة على الطريق المحطم تقريبًا، تاركة كل شيء خلفها في المنزل سوى بعض الملابس لهن، حتى استطاعوا استقلال سيارة نقلتهم إلى منطقة "دنجولة"، حيث استضافتهن أسرة كريمة لمدة يوم قبل تحديد مصيرهن، إما الذهاب إلى مصر أو ولاية أخرى لم تشارك في الحرب بعد.
حسمت هاجر الأمر: "سنذهب إلى مصر، هي أكثر أمانًا لي ولبناتي".
في طريق الهروب الذي استغرق تقريبًا 7 أيام حتى وصولهن إلى مصر، التقت زوجها أثناء عودته إلى العمل، أعطاها أموالًا للرحلة، وقرر ألا يسافر معهن حتى لا تزيد التكلفة، وفضل مواصلة العمل السودان حتى يجمع المال ويلحق بها فيما بعد إلى مصر، أخبرها أن الاولوية الآن أن يطمئن لوصولهن إلى بر الأمان.
أربعة أيام قضتها هاجر حتى خرجت من السودان، احتوت بناتها الخمس، ووقفت في طابور معبر السودان إلى مصر لمدة يوم كامل، بعد تعرضهن لحيلة من سائق انتهت بدفع أموال كثيرة للسفر، فمثلًا ثمن المواصلة 300 ألف جنيه سوداني للعبور إلى الحدود المصرية، وزجاجة مياه صغيرة 1000 جنيه سوداني، وهذه مبالغ ضخمة لم تكن نفسها التي كانت تدفعها من قبل.
فور أن ختم موظف التفتيش في المعبر الحدودي بين مصر والسودان جواز سفر هاجر شعرت بالأمان، وساعدها أكثر عدم طلب الموظفين ورقة موافقة الأب على سفر البنات، لأن الوقت لم يسعفها في جمع كل الأوراق الرسمية المهمة.
ومع وصولها إلى "أبو سمبل" في أسوان، استطاعت أخيرًا أن تتنفس بانتظام.
لهاجر خبرة سابقة بالعيش في مصر، لذا أول ما فعلته هو شحن خط هاتفها المصري بالرصيد، والاتصال بسمسار في منطقة حدائق المعادي بالقاهرة لتوفير شقة لها، هاجر كانت تذهب كل فترة بين مصر والسودان من 2009 إلى 2018 نظرًا لعمل زوجها، وأنجبت ثلاث من بناتها في مصر، لكنها استقرت في السودان بعد ذلك لارتباط ذلك بمدارس بناتها.
بعد أسبوع من رحلة الأسرة أخيرًا توقف القطار في محطة مصر مع بداية شهر مايو، ومنه استقلت مواصلة وذهبت إلى حدائق المعادي، استقبلها جيرانها في حدائق المعادي ممن تعرفهم منذ سنوات بترحاب، علاقتها بهم لم تنقطع حتى وهي في السودان، اطمئنوا بوصولها وحاولوا تخفيف أثر الصدمة عليها.
مشاهد الجثث لا تفارق خيال هاجر تقول لـ"صوت السلام": “بقالي شهر مش عارفة أنام.. كل ما افتكر إني كنت بعدي وسط جثث أنا وبناتي بخاف" تردد بصوت تخنقه الدموع، وتضيف أن المعاناة في نومها مستمرة تحاول النوم ساعة أو ساعتين على الأكثر، لكنها تستيقظ فزعة مع أية حركة في الشارع وتتذكر أصوات الصواريخ.
حول هاجر بناتها الخمسة لا تفارقهن حتى تنام، أكبرهن تبلغ من العمر 12 عامًا، والباقي أصغر حتى تصل إلى سن عام ونصف، تطمئن على نومهن حتى تسيطر قليلًا على نوبات القلق والفزع التي تأتيهم.
قلق هاجر مضاعف فهي تبذل ما بوسعها لمحو الألم من ذاكرة بناتها بالأحضان مرة وبالتأكيد على اختيار السفر إلى مصر مرات، لكنها شاردة الذهن في أحوال أخرى تفكر في عملها ومستقبلها، ستضطر الآن للبدء من الصفر دون عمل، بعد امتلاكها محل تصفيف شعر "كوافير" مشهور في منطقتهم، وفي طبقة اجتماعية تضمن لبناتها ولها حياة أفضل.
تطمئن على زوجها عبر الاتصال على الإنترنت أو الاتصال الدولي، تعرف أنه سافر إلى والدته في إحدى المدن، ينتقل بينها والخرطوم لإنهاء مهمات، يعمل ويجمع المال انتظارًا للذهاب لهن، لكنه عاجز عن مساعدة بناته، البنوك إما مغلقة أو اختفت تحت أثر الصواريخ مثل كل معالم الخرطوم.
أنفقت هاجر وأسرتها "تحويشة العمر" للحصول على الأمان لها ولبناتها، تبدأ حياتها من جديد دون عمل، كل أمنيتها أن يأتي زوجها، وألا يفوت بناتها السنة الدراسية، تبحث لهن عن مدارس جيدة لتعويض ما فاتهن.
تنظر في حيرة للمستقبل وتتمنى أن تبدأ مرة أخرى مشروعها "الكوافير"، حتى لو بدأت من المنزل فيما بعد، فالأهم ألا تتذكر شكل الجثث أو تسمع صوت الصواريخ مرة أخرى.