عن الأسطى محمد.. آخر "كُلوباتي" في بورسعيد

Photographer: مؤمن مسعد

Written By مؤمن مسعد
2023-09-26 00:00:00

بجانب باب خشبي عتيق مغلق لا يعلوه "لافتة"  يقف محمد، رجل ستّيني، ابتسامته صافية، يرتدي قميصًا رماديْ اللون، يضع دراجته أمام المحل، يُخرِج من جيب بنطاله مفتاحًا أكله الصدأ، يفتح بابًا لمحل تسمع صريره بوضوح، هنا يبدأ عمل "الكُلوباتي".

هذا هو يوم محمد، يستيقظ مع دقّات الساعة العاشرة صباحًا، يقود دراجته إلى مسجد صغير بجانب الدكان ليؤدي صلاة الظهر، ثم يفتح أبواب المحل ويقضي ساعتين بالقرب من كُلوباته، يسترجع خلالهما الأيام، ويتمعن في تفاصيلها الدقيقة وكأنه يرى الأشخاص، ويسمع الأصوات ويرى أضواء الكُلوبات.

حين فتح محمد الباب تشاهد محلًا مهجورًا للوهلة الأولى، جدرانه تشقق طلائها، يتوسطها برواز بلا ملامح، المحل فارغ إلا من مقعد خشبي، و"ترابيزة" بأرفف وأدراج منهكة، يصعب فتحها من أثر التراب الذي يكسوها، يعلوها مصباحين بهيكل مميز.

كأن محمد عاد بآلة الزمن أكثر من ستين عامًا، عمره تقريبًا كله، يُشير بأصابعه إلى المحل ويقول إنه يعود إلى عام 1957، محل ضيق لا تزيد مساحته عن مترين في ثلاثة أمتار، تفوح منه رائحة الأشياء القديمة، المكان مثل نهر يفيض بالحكايات، تتمنى مثل محمد لو أنك عدت ليوم واحد في هذا الزمن، فيما هو يشعر بالبهجة لأنه عاش تلك الأيام وصنع الأحداث، لذا قرر أن يحافظ على ميراثه خلال الباقي من عمره.

منذ سنوات كانت مهنة "الكُلوباتي" ضرورة في كل شارع وحارة، شخص يمتلك دكانًا صغيرًا، يحمل "كُلوبات" متفاوتة الأحجام، لسنين أضاءت مصابيح محمد المحلات والمقاهي والمآتم والأفراح وعربات الباعة الجائلين، قبل أن تندثر المهنة ويعلو أبواب الدكاكين التراب.

هنا في بورسعيد كان يعمل ثلاثة كُلوباتية أزيلت دكاكينهم جميعًا وحل مكانها محلات تجارية أخرى، فيما عدا دكان الأسطى مختار والد محمد الذي ورث عنه المهنة.

قرر مختار الاحتفاظ بورشته على الرغم من اندثار المهنة منذ ما يزيد على ربع قرن، وذلك حين بدأت الحكومة في وضع أعمدة الإنارة في الحواري والأزقة وليس الشوارع الرئيسية فقط، بالإضافة إلى انتشار الكشافات الحديثة.

"مهنة الكُلوباتي انقرضت وهذه هي سُنَّة الحياة، ولكنني أحرص على فتح المحل يوميًا منذ أن بلغت سن المعاش، وبالرغم من أنني بِيعت كل كُلوبات الورشة التي ورثتها عن والدي، لكني لازلت أحتفظ بكُلوبين وبعض من النحاس وقطع الغيار القديمة"، هكذا تحدث محمد.

محمد هو آخر الكُلوباتية الأحياء بيننا، يعمل في ورشة والده الكائنة في شارع كسرى داخل حي العرب، يقول لـ"البورسعيدية": "قبل المعاش كنت أعمل براد مواسير أول في شركة الأعمال الهندسية ببورسعيد التابعة لهيئة قناة السويس، وكان والدي كُلوباتي يعشق تفاصيل مهنته، تعلمت الصنعة منه عندما كان يصطحبني إلى الورشة في الصغر، وعلى الرغم أن صناعة الكُلوب حرفة تحتاج إلى فنان وحرفي ماهر إلا أنني أتقنتها وحفظت كل أسرارها التي ماتت مع المهنة".

يُمسِك محمد بيده الكُلوب ويمسحه من التراب، ويُكمل: "الورشة كانت مليئة بالأَرْفُف، واحتوت على أشكال عديدة من الكُلوبات، ولكن بسبب ظروف الحياة اضطررت إلى بيع أغلبها إذ لا أحتاج إليها، وكان سعر الكُلوب 15 قرش ويُضاء بالجاز، والحكومة كانت توزع 15 لتر من الجاز لجميع الأسر كل أسبوعين، لو كان الكُلوب يُستخدم الآن سيكون سعره بين 1500 لـ 2000 جنيه".

ويقف محمد ليشرح لنا طريقة عمل الكُلوب ومكوناته ويقول: “هو عبارة عن "القمرة" وهي الزُجاج الشفاف، وأسفلها ماسورة مكونة من ثلاث قطع نحاس يمر من خلالها الجاز، وهم الفُونية، الزُور، الكُوستبان، ونسيج حريري يُسمى "الرتينة" يتصل بقاعدة الكُلوب وهي عبارة عن "ماكينة" يُفترض أن تُعمرها بالجاز لتعطيه دفعة ليصعد للأعلى، وتستعين بـ"الباشبوري" وهو أداة تسخين الكُوستبان بالنار ليخرج البخار على الرتينة، ولا يشتعل الكُلوب الذي لا يعطي إضاءة صافية تامة إلا مع الجاز الأبيض".

وبخبرة السنين يقول: "هناك نوعان من الكُلوب، الأول هو الترابيزة والذي كان يثبته الباعة الجائلين على عرباتهم، والكُلوب العُليقة والذي كان يستخدم في جميع المحال التجارية بمختلف أشكاله وأحجامه الذي تحدد حسب الحاجة إلى ضوء أكثر".

مع أذان المغرب وآخر خيط للشمس، يخرج الكُلوباتي ليوزع الكُلوبات على أصحاب الدكاكين، والباعة الجائلين، ولم يكن دور الكُلوباتي يقتصر على البيع فقط، وإنما كان يؤجره أيضًا ويملأ الجاز الذي ينيره.

ينتهي يوم الكلوباتي ودوره لكنه بفخر يتذكر أهميته ويقول: "إذا غاب يومًا عن أداء عمله، لن يرى المارة البضائع في الليل وستتوقف حركة البيع والشراء ليلًا، وهذه خسارة كبيرة للتجار الذين لم ينتهوا من بيع بضاعتهم في النهار؛ لذلك كانت مهنة الكُلوباتي من أهم المهن في الحارات المصرية قديمًا".

 

Photographer: مؤمن مسعد -